من أعلام شعراء الأندلس على عهد الطوائف والمرابطين ابن صارة الشنتريني

اسمع عبد الله بن صارة، هكذا أوردته جل المصادر، بيد أنها اختلفت في كتابة اسم جده ما بين (صارة) بالصاد، و(سارة) بالسين، وقد أشار إلى ذلك بعض المترجمين له، فقال ابن خلكان: (ويقال في اسم جده: صارة وسارة بالصاد والسين المهملتين)، وقال السيوطي: (عبد الله بن محمد بن سارة، ويقال: صارة)، ونبه ابن الأبار إلى خطأ رسم هذا الاسم بالجيم، فقال: (وغلط ابن نقطة في اسمه، قال: “ابن جارة: مكان “ابن صارة”، وقد نبهت على ذلك في المعجم الذي جمعته في أصحاب ابن العربي).
كما أن بعض المصادر ومنها التكملة، و”وفيات الأعيان” ثتبت له نسبته إلى قبيلة (بكر) مشيرة بذلك إلى أصله العربي، وهي جميعها، أي المصادر، تنسبه إلى (شنترين)، ومع ذلك فهي تمسك عن التصريح بأن هذه المدينة هي مسقط رأسه، لكننا لسنا نملك من الأخبار ما يستفاد منه أنه ولد في غيرها.
أما كنيته فهي (أبو محمد) عند جميع مترجميه إلا ابن ظافر الذي انفرد بتكنيته بـ(أبي العباس) فيما ساقه من خبر اجتماعه بالوزير أبي بكر بن القبطرنة وما كان من مساجلة شعرية بينهما، وعن ابن ظافر نقل المقري في النفح.
وليس في المصادر بعد ذلك أية إشارة ولو لم تكن محددة لتاريخ ميلاد ابن صارة، لكن أغلبها لم يغفل النص على التأريخ لوفاته بسنة سبعة عشر وخمسمائة للهجرة، ولم يفت بعضها أن يحدد مكان الوفاة في مدينة ألمرية، على أننا إذا عرفنا أن العمر امتد بالشاعر إلى ما بعد السبعين كما يشي بذلك قوله:
أي عذر يكون لي، أي عذر *** لابن سبعين مولع بالصبابـة
وهو ماء لم تبق منه الليالي *** في إناء الحــياة إلا صبـابه
نستطيع أن نجعل ميلاده خلال العقد الخامس من القرن الخامس، بل إنه إذا صحت نسبة البيتين التاليين له:
ولي عصا عن طريق الذم أحمدها *** بها أقــدم في تأخــيرها قدمــي
كأنهــا وهي في كفي أهـــــش بها *** على ثمانين عاما لا على غنمي
سواء أكان صحيحا هذا احتمال التقريبي لتاريخ ميلاده أم لا فما يهما هو التأكد من أن الشاعر عاش في ظل فترتي الطوائف والمرابطين وأنشأ شعره متأثرا بالظروف والأوضاع السياسية والاجتماعية التي سادت الفترتين.
كان ابن صارة من الشعراء المعوزين، فاضطر مثلما اضطروا إلى استنباط المال بالتزلف، وألح مثلما ألحوا في طلب المال والجاه دونما جدوى، ويعبر عن هذا قوله:
أرى الدينار للدنيا نسيبا *** يحيد عن الكرام كما تحيد
هما سيان إن صفحت حرفا *** وجدت الراء تنقص أو تزيد
رأيت هواهما استولى علينا *** فنحن بحكمه أبدا عبيد
يؤمل أن يصيدهما فؤادي *** فيرجع عنهما وهو المصيد
ولقد كان يخيل لابن صارة أن فشله في الظفر بالمال مرجعه إلى سوء حظه وليس إلى أي شيء آخر:
يفوز به الخلي فيحتويه *** ويحرم وصله الصب العميد
إلى كم ينفر الدينار مني *** ويطلب كف من عنه يحيد؟
ألم أنشده في وادي هيامي *** به لو كان يعطفه النشيد؟
“حبيبي أنت تعلم ما أريد *** ولكن لا ترق ولا تجود”
لا شك أن شاعرنا كان يحز في نفسه أن غيره يتنعم برغادة العيش وهو البائس المحروم، وها هو يعبر عن ذلك في كثير من المرارة والحسرة:
للنّاس عيش درّت الدنيا لهم **** من دوننا بنعيمه وبزاده
أخذوه موفوراً كما شاءوا ولم *** يؤذن لنا فنكون من أخّاذه
حضروا وغبنا شذذاً ولربّما *** حرم الغنى من كان من شذاذه
وأراهم هذّوا وأبْطأنا وقد *** يدنو بعيد الخطو من هذّاذه
وأغلب الظن أن هذا الإحساس نفسه هو الذي بصر الشاعر بجدوى التطواف بحثا عن مفتاح النجاح الذي تحقق النفس أمانيها وآمالها:
سافر فإن الفتى من بات مفتتحا *** قفل النجاح بمفتاح من السفر
إن شئت خضرتها يا ابن الرجاء فكن *** في طي غبر الفيافي ثاني الحضر
ولا يصدنك عن وجه تصعبه *** قد ينبغ الكوثر السلسال من حجر
كيف لا؟ ومن أهم أسباب الرزق، بعد تفضل الله عز وجل، التنقل والضرب في الأرض:
للرزق أسباب ومن أسبابه *** إعمال ناجية وشد حزام
شيئان في الأسفار يكتنفانها *** كسب الخطير وصحة الأجسام
وفي رحلة البحث عن المار والرزق دخل ابن صارة إشبيلية، ثم توجه إلى ألمرية حينا، وغرناطة آخر، وسكن قرطبة حينا ثالث، ويسكن أحيانا أخرى غير هذه وتلك من بلدان الجزيرة، وتصدر للتدريس، واشتغل بالكتابة، وبالوراقة وكان (له منها جانب، وبها بصر ثاقب).
لكن بعد دخول المرابطين وسقوط حكم بني عباد كسد سوق الوراقة، وخاب أمل الشاعر أن يستذر منها رزقا، وقد عبر عن ذلك بقوله:
أما الوراقة فهي أيكة حرفة *** أوراقها وثمارها الحرمان
شبهت صاحبها بصاحب إبرة *** تكسو العراة وجسمها عريان
لقد أخفق ابن صارة في الحصول على المال بواسطة ما يتقن من فن، ويجيد من علم حتى وقر في نفسه أن الذنب فيما يعانيه من الشظف والحرمان مرجعه إلى أدبه:
قاضي الشرق أشرقتني بريقي *** نائبات يطلبن عندي ثارا
لا لذنب إلا لأني أديب *** طاب عود منه فكان نضارا
لم لا؟ وقد كان يلاحظ أن (قيمة كل أحد ماله، وأسوة كل بلد جهاله).
ويرى غيره ممن لم يعن فكره بعلم، ولم يشغل نفسه بأدب، يرفل في الثراء وينعم بالملذات، وهذا ما صوره في سخرية وحسرة:
عابوا الجهالة وازدروا بحقوقها *** وتهافتوا بحديثها في المجلس
وهي التي ينقاد في يدها الغنى *** وتجيئها الدنيا برغم المعطس
إن الجهالة للغنى جذابة *** جذب الحديد حجارة المغنطيس
ومع ذلك لم تكن لابن صارة مندوحة من اتخاذ أدبه وسيلة في السعي وراء الأرزاق، لذلك نراه يتردد على كثير من المدن مادحا، فقد دخل إشبيلية، وهناك وصل نفسه برجالها البارزين ليظفر بأعطياتهم، ومن ممدوحيه فيها القاضي الفقيه: “أبو بكر محمد بن عبد الله بن العربي المعافري” ودخل غرناطة ومدح واليها أبا بكر بن إبراهيم اللمتوني.
لقد طلب ابن صارة المال والثروة وسعى إليها ولكنه أخفق في مطلبه، وتعثر في مسعاه، ولم يملك، بعد هذا وذاك إلا أن يتخذ القناعة حينا:
وأرى القناعة للفتى كنزا له والبر أفضل ما به يتمسك
وحينا آخر يهاجم الدنيا وبنيها:
بنو الدنيا بجهل عظكوها فعزت عندهم وهي الحقيرة
يهارش بعضهم بعضا عليها مهارشة الكلاب على العقيرة
ولعل فشل الشاعر في الحصول على المال والثروة كان فيما دفع به دفعا إلى الإغراق في حياة اللهو والمجون وهي حياة استطابها الشاعر، فيما يبدو، فلم يقلع عنها حتى بعد أن تقدم به العمر:
أي عذر يكون لي أي عذر *** لابن سبعين مولع بالصبابـة
وهو ماء لم تبق منه الليالي *** في إناء الحــياة إلا صبـابه
انظر دعوة الحق العدد 259
محرم – صفر 1407/شتنبر- أكتوبر 1986
الصفحة 99- 107 بحث للدكتور حسن الوراكي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *