رثاء المدن والممالك الشعر المشرقي نموذجا

تكلمنا في المقال السابق عن رثاء المدن في الأندلس التي بلغ فيها هذا الفن مداه، وتربع شعراؤه على عرشه، وبلغوا في البديع أقصاه، وفي هذا المقال نستعرض أمثلة على مراثي شعراء المشرق لمدنهم التي صارت يَبَابَا بعدما كانت آهلة بسكانها آمنة مطمئنة بين أصوارها.

لقد عرف المشرق قدرا من هذا الرثاء شعرًا، عندما تعرضت عاصمة الخلافة العباسية للتدمير والخراب خلال الفتنة التي وقعت بين الأمين والمأمون. فنهبت بغداد وهتكت أعراض أهلها واقتحمت دورهم، ووجد السّفلة والأوباش مناخًا صالحا ليعيثوا فسادا ودمارا. وقد عبر الشاعر أبو يعقوب إسحاق الخريمي، وهو شاعر خامل الذكر، عن هذه النَّكبة في مرثيته لبغداد فقال:
يا بؤس بغــداد دار مملكـة *** دارت عـــلـى أهلهـــا دوائـــرها
أمهلــها الله ثــم عـــاقبـــها *** حــين أحــاطت بهــا كــبـــائرها
بالخسف والقذف والحريق *** وبالحرب التي أضحت تساورها
حــلّت ببــغداد وهي آمنــة *** داهيـــة لــم تـــكن تحــــاذرهــا
ثم كان خراب البصرة على يد الزنج في ثورتها المشهورة. فأشعلوا فيها الحرائق وحولوها إلى أنقاض ودمار، فوقف الشاعر ابن الرومي مذهولا بما حدث فقال:
كم أخ قد رأى أخاه صريعا *** تَرِبَ الخد بين صرعى كرام
كم مفدّى في أهـله أســلموه *** حين لم يحْمه هنــالك حـامـي
كم رضيع هناك قـد فطموه *** بشبا السيــف قبل حـدّ الفطام
وبالإضافة إلى هاتين المرثيتين، حفل ديوان رثاء المدن في المشرق، بطائفة من القصائد تتحدث عن تلك المدن التي أسقطها “هولاكو” و”تيمور لنك”.
وكذلك استثارت نكبة بغداد على يد هولاكو عاطفة عدد من الشعراء مثل شمس الدين الكوفي، ومن أبياته قوله:
إن لم تقرّح أدمـــعي أجــفاني *** من بَعْدِ بُعْدِكُمُ فما أجـفاني
إنسان عيني مذ تناءت داركم *** ما راقه نـظر إلى إنــسـان
مالي وللأيام شتـــت خـطـبها *** شملي وخــلاني بلا خلان
ما للمنازل أصبحت لا أهلها *** أهلي ولا جيرانها جيراني
وتعد مرثية الشيخ تقي الدين إسماعيل بن إبراهيم التنوخي في القرن السابع الهجري أشهر مراثي بغداد حين خربها هولاكو. يقول في آخر القصيدة:
إن القيـامة في بغداد قد وجدت *** وحـــدّها حيــــن للإقبال إدبـار
آل النبي وأهل العــلم قد سُبيوا *** فمن ترى بعدهم تحويه أمصار
ما كنت آمل أن أبقى وقد ذهبوا *** لكن أتـى دون مــا أخـتار أقدار
وكذلك كان رثاء دمشق عندما سقطت في أيدي التتار فتعاقب على رثائها كثير من الشعراء مسجلين ذلك الحدث ومنهم الشاعر علاء الدين العزولي في قوله:
أجريت جمر الدمع من أجفاني *** حزنا على الشقراء والميدان
لهفي على وادي دمشق ولطفه *** وتبــدل الـــغزلان بالثـــيران
واحسرتاه على دمشق و قولها *** سبـحان مــن بالغل قد أبلاني
لهفي عليك محاسنا لهفي عليـــــــــــــك عرائسا لهفي عليك مغاني
ولكن هذا اللون في المشرق لم يزدهر ازدهاره في الأندلس، ويعزى ذلك إلى أن طبيعة التقلبات السياسية في الأندلس كانت أشد حدة وأسرع إيقاعا، وأنها اتخذت شكل المواجهة بين النصارى والمسلمين حين تجمع الصليبيون عازمين على طرد المسلمين وإخراجهم من الأندلس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *