التورية عرفها البلاغيون بأنها: إطلاق لفظ له معنيان قريب وبعيد، ويراد البعيد منهما عند الإطلاق، مع مصاحبة ذلك بقرينة خفية تدل على المعنى؛ فالحريري يتناول هذا اللون بصورة طريفة جديدة على خلاف ما تعارف عليه البلاغيون؛ إذ جاء بها بصورة أسئلة فقهية، إلا أنه استطاع أن يلتزم إخفاء المعنى القريب، بطريقة يصعب أحيانا الوصول إليه إلا لطبقة خاصة من أهل العبارة.
ففي المقامة الثانية والثلاثين المسماة بـ “الطيبية” ذكر مائة مسألة فقهية بصورة معينة، وينبغي أن يلاحظ أن الحريري شافعي المذهب، فما أورده من الأسئلة والأجوبة جار على مذهبه، والدليل على ذلك قوله فيما بعد: “اشكر لمن نقلك عن مذهب إبليس إلى مذهب ابن إدريس”.
ونختار بعضا من المقامة للتمثيل وهي جارية على السؤال والجواب بين أبي زيد السروجي وفتى آخر:
1- سأل الفتى: أيجوزُ الوُضوء ممّا يقْذِفُهُ الثّعبانُ؟ قال: وهلْ أنْظَفُ منهُ للعُرْبانِ؟
فالمعنى القريب للثعبان هو الحية، والبعيد الذي أراده الحريري هو الثعبان من الثعب وهو مسيل الوادي، (والعربان واحده العرب بضم العين ويجمع على العربان كالسود والسودان).
2- قال: أيُستَباحُ ماء الضّريرِ؟ قال: نعَمْ ويُجتنَبُ ماء البَصيرِ.
فالتورية هنا في الضرير والبصير، فالمعنى القريب المتبادر إلى الذهن هو الأعمى، والبعيد هو: حرف الوادي، والمعنى القريب للبصير هو ضد الأعمى، والبعيد المقصود هو: الكلب.
3- قال: فهلْ يجِبُ على الجُنُبِ غسْلُ فرْوَتِهِ؟ قال: أجَلْ وغسْلُ إبْرَتِهِ.
وهنا أيضا التورية جاءت في كلمتين الفروة والإبرة، فالمعنى القريب المتبادر للفروة هو واحد الفراء وهو مما يستعمل من جلود الضأن وغيره للجلوس والفرش وغير ذلك، والبعيد المراد هو جلدة الرأس، وكذلك الإبرة؛ فإن المتبادر هو إبرة الخياطة المعلومة وبالطبع لا معنى لغسلها، أما البعيد فهو عظم المرفق.
4- قال: أيجوزُ الغُسلُ في الجِرابِ؟ قال: هوَ كالغُسلِ في الجِبابِ.
فالجراب المتبادر هو الوعاء المصنوع من الجلد، ولا معنى لجواز الغسل فيه حتى يستفتى عنه، والمعنى المقصود هو: جوف البئر، أما الجباب فهو جمع جب ومنه: {وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُب}.
5- قال: فهل يجوز السجود على الكراع؟ قال: نعم! دون الذراع.
والكراع هو ما في البقر والغنم بمنزلة الوظيف من الفرس والبعير، وهو مستدق الساق وهو المُوَرَّى به، أما الكراع المقصود فهو ما استطال من الحرة، وهي أرض ذات حجارة سود.
6- قال: أيجوزُ للدّارِسِ حمْلُ المصاحِفِ؟ قال: لا ولا حمْلُها في الملاحِفِ.
فالدارس المتبادر في الذهن هو الذي يدرس العلم، والمعنى البعيد منه هو الحائض.
8- قال: فإنْ أمّهُمْ منْ فخْذُهُ بادِيَةٌ؟ قال: صلاتُهُ وصلاتُهُم ماضيَةٌ.
فالمتبادر من الفخذ هو العضو المعروف، والبعيد: العشيرة، و(بادية) أي يسكنون البدو.
9- قال: ما تَقولُ في مَنْ أفقَر أخاهُ؟ قال: حبّذا ما توَخّاهُ.
فالمعنى القريب أنه فعل به ما يصيره فقيرا، والبعيد: أفقره بمعنى أعاره ناقته يركب فقارها.
10- قال: أينعَقِدُ نِكاحٌ لمْ يشهَدْهُ القَواري؟ قال: لا والخالِقِ الباري.
المعنى القريب للقاري هو نوع من الطير مفرده قارية، والبعيد هو: الشهود؛ لأنهم يقرون الأشياء أي يتتبعونها .
ينبغي أن نشير أن التورية هي أقرب إلى الألغاز منها إلى التورية الاصطلاحية؛ فقد علق عليها أبو العباس الشريشي بقوله: “لقد أحسن أبو محمد في هذه الفتاوى، وأجاد وبلغ مبلغا من الاقتدار والاتساع فوق المراد، وإن كان لا يوصف فيها بالابتداع فلقد أحسن في الاتباع، فالسابق إليها هو أبو بكر بن دريد في كتاب سماه بالملاحن، وهو أن توري بلفظ عن لفظ، ثم تمم تلك الأغراض وحسنها أحمد بن عبيد الله في كتاب سماه بالمنقذ، وفائدتها التخلص من الظلم أو تسلط غاشم، لا أن يقتطع بها حق مسلم” .