اشتقاق الشعر وبيان أسمائه

الشِّعر لفظة مشتقة من العلمِ والإدراكِ والفطنةِ، تقول العرب: ليْتَ شِعْري هلْ أصابَ صوْبُ السماءِ منازِلَ أسماءَ، أي ليت علمي، قال الشاعر -وأنشده ابنُ الأعرابي-:

يا ليْتَ شِعْري والمُنى لا تَنْفَعُ *** هلْ أغْدونْ يوْماً وأمري مُجْمَعُ
وتحتَ رَحْـــلي زَفَيـــانٌ مَيْلَعُ *** حـــرْفٌ إذا ما زُجِــــرَتْ تبَوَّعُ
كأنّـــها نائــــحـــــةٌ تفـــجّـــَعُ *** تبْكي لمَيْتٍ وســـواها المـــوَجعُ
زَفَيان: ناقةٌ تَزيفُ في مَشيِها: تسرع، وميلعٌ: سريعةٌ ناجية.
وسُمّي الشاعرُ شاعراً لعلمه وفطنتِهِ.
وأما كونُهم سمّوا الشعرَ: قريضاً، فلأنّ اشتقاقه من القَرْضِ وهو القطْعُ، لأنه يُقْرَضُ من الكلامِ قرْضاً، أي يقطعُ منه قَطْعاً كما يُقْرَضُ الشيءُ بالمِقْراض. قال الله تعالى: “وإذا غَرَبَتْ تَقرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمال” أي تجوزُهُم وتَدَعُهُم على أحدِ الجانبين، قال عبد العزيز بن حاتم بن النعمان بن الأحمر، وكان يهاجي الفرزدق:
أنفي قَذَى الشِّعرِ عنهُ حينَ أقْرُضُه *** فما بِشعــْريَ من عيْـــبٍ ولا ذامِ
كأنّما أصْـطَفي شِــعري وأغـــرِفُه *** من مَوْجِ بحْرٍ غزيرٍ زاخـرٍ طامِ
منــــهُ غرائِبُ أمــثـــالٍ مُشــــهَّرةٍ *** ملمومةٍ، إنها رَصْــفي وإحـكامي
وأما القصيدُ، وهو جمْعُ قصيدةٍ مثل سَفين جمع سَفينة، فإنما اشتُقّتْ لفظتها من القِصْدَة وهي القِطْعة من الشيء إذا تكسّرَ كأنها قِطعةٌ من الكلام، ومن ذلك رُمْحٌ قِصَدٌ وقد تقصّدَ إذا صار قِطَعاً، قال المُسيَّبُ بنُ عَلَس:
فَلأُهدِيَنّ مع الرِّياحِ قصيدةً *** منـي مُغلــْغَلَةً الى القَعــْقاعِ
ترِدُ المياهَ فلا تزالُ غريبةً *** في القَوْمِ بين تمثُّلٍ وسَماعِ
وأما تسميتُهُم القصيدةَ قافيةً، فلأن القافيةَ تقفو البيتَ أي تتبعُهُ، وسمّوا الجميعَ باسم واحدٍ إيجازاً واختصاراً كما سمّوا القصيدةَ بجملتها كلمةً، والكلمةُ اللفظةُ الواحدة، ميلاً الى اختصار الكلام وإخلاداً الى ما يدلُ فيه على التمام، قالت الخنساء:
وقافيــةٍ مثل حـــدِّ السّـــِنانِ *** تبْقَى ويهلِكُ مَنْ قالَـــــها
نطقتَ ابنَ عمروٍ فسهّلْتَــها *** ولمْ ينْطِـقِ الناسُ أمْثالَها
إنّ الشعرَ عبارةٌ عن ألفاظٍ منظومة تدلُّ على معانٍ مفهومة، وإن شئتَ قلت: الشعرُ عبارةٌ عن ألفاظ منضودة، تدلُ على معانٍ مقصودة، فإذا قيسَ به النثرُ كان أبرعَ منه مطالِعَ، وأنْصَعَ مقاطع، وأجرى عِناناً، وأفصحَ لساناً، وأشردَ مثلاً، وأعضدَ مُنْصُلاً، وأسدَّ سِهاماً، وأشدَّ خِصاماً، وأنْوَرَ نجْماً، وأزهر نَجْماً، وأبقَى مياسِمَ، وأنْقَى مباسِمَ، وأذكى مناسِمَ، وأزكى معالِمَ، وأرشقَ في الأسماع، وأعلَقَ بالطِّباع.
قال الأصمعي: الشعرُ ما قَلّ لفظُهُ، وسهُلَ ودَقّ معناه ولَطُفَ، والذي إذا سمعْتَهُ ظننْتَ أنك تنالُه، فإذا حاولته وَجدتَه بعيداً، وما عدا ذلك فهو كلامٌ منظومٌ، وقال بعض البُلغاء: الشِّعرُ عبارةٌ عن مثَلٍ سائرٍ وتشبيه نادرٍ واستعارةٍ بلفظٍ فاخر.
نضرة الإغريض في نصرة القريض
……………………………….

الأدب ينمي العقول
للعقولِ سجياتٌ وغرائزُ بها تقبل الأدب، وبالأدبِ تنمى العقولُ وتزكو.
فكما أن الحبة المدفونة في الأرضِ لا تقدر أن تخلعَ يبسها وتظهر قوتها وتطلع فوق الأرضِ بزهرتها وريعها ونضرتها ونمائها إلا بمعونةِ الماء الذي يغورُ إليها في مستودعها فيذهب عنها أذى اليبس والموت ويحْدِث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقةُ العقلِ مكنونةٌ في مغرزها من القلبِ: لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدبُ الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها.
وجل الأدب بالمنطق وجل المنطقِ بالتعلمِ. ليس منه حرف من حروف متعجمه، ولا اسم من أنواع أسمائها إلا وهو مروي، متعلمٌ، مأخوذٌ عن إمام سابقٍ، من كلامٍ أو كتابٍ.
وذلك دليلٌ على أنّ الناس لم يبتدعوا أصولها ولم يأتهم علمها إلا من قبلِ العليمِ الحكيمِ.
فإذا خرجَ الناسُ من أن يكونَ لهم عملٌ أصيلٌ، وأن يقولوا قولاً بديعاً فليعلمِ الواصفونَ المخبئون أن أحدهم -وإن أحسن وأبلغ- ليس زائداً على أن يكون كصاحب فصوص وجد ياقوتاً وزبرجداً ومرجاناً، فنظمه قلائد وسموطاً وأكاليل، ووضع كل فص موضعهُ، وجمعَ إلى كل لونٍ شبهه وما يزيدهُ بذلك حسناً، فسمي بذلك صانعاً رفيقاً، وكصاغة الذهب والفضة، صنعوا منها ما يعجبُ الناس من الحلي والآنية، وكالنحل وجدت ثمراتٍ أخرجها الله طيبةً، وسلكت سبلاً جعلها الله ذللاً، فصار ذلك شفاءً وطعاماً، وشراباً منسوباً إليها، مذكوراً به أمرها وصنعتها.
فمن جرى على لسانه كلامٌ يستحسنهُ أو يستحسنُ منهُ، فلا يعجبن إعجاب المخترع المبتدعِ، فإنه إنما اجتناهُ كما وصفنا.
الأدب الكبير والأدب الصغير
………………………………….

التمليط
التمليط هو أن يجتمع شاعران فصاعداً على تجريد أفكارهم، وتجريب خواطرهم في العمل في معنى واحد.
وأما اشتقاقه فذكر ابن رشيقٍ أنه من أحد شيئين، إما أن يكون من الملاطين، وهما جانبا السنام في مرد الكتفين، قال جرير:
ظللن حوالي خدر أسماء وانتحى بأسماء موار الملاطين أروح
فكأن كل قسيم أو بيت ملاط، أي جانب من البيت أو القطعة.
والآخر أن يكون من الملاط، وهو الطين يدخل في البناء، ويملط به الحائط تمليطاً، أي يدخل بين اللبن حتى يصير شيئاً واحداً.
وأما الملط؛ وهو الذي لا يبالي ما صنع، والأملط؛ وهو الذي لا شعر له في جسده، فليس لاشتقاقه منهما وجه.
قال علي بن ظافر: فمن التمليط ما يكون بين شاعرين؛ ومنه ما يكون بين شعراء، ومنه ما يكون بقسيمٍ لقسيمٍ، ومنه ما يكون بيت لبيت، ومنه ما يكون ببيتين لبيتين.
ومن التمليط سجال امرؤ القيس والتوأم اليشكري، حيث قال له امرؤ القيس: إن كنت شاعرًا كما تقول فملِّط أنصاف ما أقول فأجزها، قال نعم. فقال امرؤ القيس:
أَحارِ1 أُريكَ بَريقاً2 هَبَّ وَهْناً3
فقال التوأم اليشكري:
كنارِ مَجوسَ4 تَسْتَعِرُ اسْتِعارا
فقال امرؤ القيس:
أَرِقْتُ5 لَهُ ونامَ أَبو شُرَيحٍ
فقال التوأم:
إِذا ما قلْتُ قَدْ هَدَأَ اسْتَطارا6
فقال امرؤ القيس:
كأَنَّ هَزيزَهُ7 بِوَراءِ غَيْبٍ8
فقال التوأم:
عِشارٌ وُلَّهٌ9 لاقَتْ عِشارا
فقال امرؤ القيس:
فلما أَنْ عَلا كَنَفَي أُضاخٍ10
فقال التوأم:
وَهَتْ أَعْجازُ11 رَيْقِهِ12 فَحارا
فقال امرؤ القيس:
فلم يَتْرُكْ بِذاتِ السِّرِّ13 ظَبْياً
وقال التوأم:
ولم يَتْرُكْ بجَلْهَتِها14 حماراً
فلما رآه امرؤ القيس قد ماتنه، ولم يكن في ذلك الحرس من يماتنه، آلى ألاَّ ينازع الشعر أحدًا آخر الدهر.
وذُكر أن شعر التوأم في هذا التمليط، أقوى من شعر امرئ القيس، لأن امرأ القيس مبتدئ ما شاء، وهو في فسحة مما أراد، والتوأم محكوم عليه بأول البيت، مضطر في القافية التي عليها مدارها جميعًا، ومن ههنا عرف له امرؤ القيس من حق المماتنة ما عرف. ونازع أيضًا علقمة بن عبدة، فكان من غلبة علقمة عليه ما كان.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: وروي أصاح.
2: قوله هب وهناً، الوهن: ساعة من الليل.
3: بريقاً: تصغيره تصغير التعظيم كقولهم دويهية، يريد أَنه عظيم بدلالة قوله: كنار مجوس تستعر استعارا، وخص نار المجوس لأَنهم يعيدونها.
4: قال ابن سيده: المَجُوسُ جمعٌ واحدهم مَجُوسِيٌّ؛ جبل معروف، وقال غيره: وهو معرَّب أَصلُه مِنْج كُوشْ، وكان رجلاً صَغير الأُذُنَيْن كان أَوّل من دانَ بِدين المَجُوس ودعا الناس إِليه، فعرَّبته العرب فقالت: مَجُوسَ ونزل القرآن به، والعرب رُبما تركت صرف مجوس إِذا شُبِّه بقبيلة من القبائل، وذلك أَنه اجتمع فيه العجمة والتأْنيت.
5: قوله: أَرقت له أَي سهرت من أَجله مرتقباً له لأَعلم أَين مصابُّ مائِه.
6: استطار: انتشر.
7: هزيزه: صوت رعده.
8: قوله: بوراء غيب أَي بحيث أَسمعه ولا أَراه.
9: قوله: عِشار وُلَّهٌ أَي فاقدة أَولادها، فهي تُكْثِرُ الحنين ولا سيما إِذا رأَت عِشاراً مثلها فإِنه يزدادُ حَنينُها، شَبَّه صوت الرعد بأَصْوات هذه العِشارِ من النوق.
10: أُضاخ: اسم موضع، وكَنفاه: جانباه.
11: قوله: وهَتْ أَعْجاز ريقه أَي استرخت أَعجاز هذا السحاب، وهي مآخيره، كما تسيل القربة الخَلَقُ إِذا استرخت.
12: ريق المطر: أَوّله.
13: ذاتُ السِّر: موضع كثير الظباء والحُمُر، فلم يُبْق هذا المطرُ ظبياً به ولا حماراً إلا وهو هارب أَو غَريق.
14: الجَلْهَةُ: ما استقبلك من الوادي إِذا وافيته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *