التطور والتغيير في الأدب سمة لازمة له لا تنفك عنه، فالأدب من ناحية مرتبط بالحياة، والحياة لا بد أن تتغير بشكل أو بآخر، ومن ناحية أخرى هناك تطلع دائم من قبل كثير من متلقي الأدب ومبدعيه إلى التغيير والتـجديـد، وإلى اعتبار المجدد ذا شخصية إبداعية متميزة، وليس نسخة مكررة عمن سبقه. ومنذ العصر الجاهلي أحس الشاعر بوطأة التقليد وثقله، فهذا عنترة يبدأ معلقته بالشكوى بأن مـن سبـقـه مـن الشعـراء لـم يتركوا له مجالاً واسعاً في بكاء الأطلال: “هل غادر الشعراء من مُتَرَدَّمِ ؟”.
لذلك حاول العديد من الشعراء ولا سيما في العصر العباسي أن يجددوا في فنهـم، فظهر ما سمي آنـذاك بمذهب المحدثـين، وتطور هـذا الأمر حتى وصل إلى غـايته، ثم بدأ بالانحدار وتحول إلى صناعة لفظية ركيكة، ومع ذلك فقد كانت محاولة التجديد همّاً دائماً يحمله الشعراء حتى في عـصور الـضعـف، فكانوا يتسابقون إلى اختراع أنواع جديدة من الصناعة اللفظية على الرغم من ركاكة ما كانوا يأتون، وفي الأندلس ظهر التجديد في أوزان الشعر وقوافيه حيث ظهرت الموشحات التي سرعان ما انتقلت إلى الشرق.
أما في أوائل العصر الحديث فـقد كانت بداية التجديد بالدعوة إلى العودة إلى أساليب الشعراء في عصور الازدهار، وأخذ هـذا التيار بالنمو حتى وصل إلى ذروته على يدي أحمد شوقي الذي قال فيه بعض النقاد: “إنه وصل بـالـشعـر المحـافظ إلى ذروته، ووضع الشعراء أمام طريق مسدود، فلم يكن أمامهم من سبيل إلا أن يقنعوا بمـكانـة دون مكانـته، أو أن ينهجوا منهجاً مختلفاً”، وكما قال أحدهم فيه وفي أمثاله: “لقد أوصلوا الطريقـة القـديمـة إلى نقـطـة لا يمـكن تجاوزها إلا بالتخلي عنها”، وهذا ما حدث فعلاً حيث ظهرت مذاهب أدبية جديدة، وجرت عجلة التـجديـد بسرعة كبيرة تجاوزت كل ما حدث في العصور السابقة.
وإذا وضعنا ما حدث في هذا العصر في سياقه التاريخي، فسـوف نـدرك أنه لا غرابة فيه، فالتجديـد سمة لازمة للأدب كما ذكرنا، أما ما نراه من سرعة هذا التغيير، وتعدد المذاهب فإنه انعكاس لما نعيشه من تغير مستمر ومتسارع ومتشعب في أساليب الحياة المادية، ومن تطور العلوم والمخترعات ووسـائـل الاتـصال والإعـلان والنشر، وانفتاح أمم العالم على بعضها، ولما يشهده هذا العصر من اضطراب فكري وعقدي، فـمن المحال والحالة هذه ألا يستجيب الأدب لهذا التغيير، أو أن تكون حركة التجديد بطيئة متأنية.
وقـد أطـلق على موجة من أواخر موجات التجديد، والتي شهد الأدب من خلالها نقلة واسعة اسم “الحداثة”، وهـذا المـصطلـح وإن كـان مـترجماً من مصطلح غربي فإنه قريب من التسمية التي أطلقها النقاد العباسيون على أصحاب المذهب الجديد إذ سموهم المحدثين، غير أن هناك فئة من العلمانيين، وأصحاب الاتجاهات المنحرفة برعوا في ركوب موجات التغيير واستغلالها، وكما تلقفوا لفظ التقدمية وتسموا به واحتكروه قفزوا على لفظ الحداثة واستغلوه وألبسوه لباسهم الفكري، وحاولوا أن يجتازوا به ساحة الأدب إلى ساحة الفكر والعقيدة، على الرغم من أن هذا المصطلح منذ ظهوره في الغرب لـم يـكـن يـعـبر عـن اتجاه فكري محدد، ولم يكن دعاة الحداثة متفقين على الثورة على المعتقدات والأفكار السـائـدة.
وحتى أصحاب الاتجاه الحداثي من العرب لم يتفقوا على تعريف محدد لـلحـداثـة، ولا عـلى موقـف فـكري مـعين، لذلـك يـرى الكـثـير منهـم أنه ليست هناك حداثة واحدة بل حداثات، كما أن بعضهم يعترف بالعجز عن إيجاد مفهوم نظري للحداثة، ويرون أنه لا سبيل إلى ذلك.
ويدعو البعض إلى محاولة استنباط مفهـوم هـذا المصطلـح ودلالته من خلال استقراء النصوص التي يرى النقاد أنها تحمل من سمات التجديد ما يميزها عن الاتجاهات التقليدية.
ولكن أولئك الذين حاولوا أن يستغلوا هذا المصطلح ويحتكروه يصرون على أن يحملوه ما يريدون من معان فكرية، بل إنهم حاولوا أن يوجدوا رباطاً وثيقاً بين التجديد في الأدب والثورة على المعتقدات، مؤكدين على أنه لا يمكن للأديب أن يطمع في أن يكون مجدداً إلا إذا تخلص من دينه وعاداته وتـقـالـيده، رابطين بمَكرٍ بين ما هو مسلَّم بوقوعه وهو التجديد في الأدب، وبين ما لا يمكن لمسلم أن يرضى به وهو الـتغـيـير في العقيدة، وكأنهم يريدون بذلك أن يحـتكروا لأنـفـسهـم ولمذاهبهم كل شعار جذاب كالتقدمية والحداثة والاستنارة والوعي، وأن ينعتوا مخالفيهم بكل نعت رديء كالتخلف والجمود والرجعية.
وبهذا يتبين أن أصحاب الأفكار المنحرفة من الذين تلقفوا مصطلح الحداثة لم يقتصروا على احتكار الاسم بل حاولوا أن يحتكروا المسمى، وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير حتى أصبح الكثيرون من المؤمنين ينفرون من التجديد في الأدب نـفوراً إيمانياً عقدياً، لا نفوراً فنياً ذوقياً.
وكان مما ساعد على ذلك سيطرة هؤلاء المنحرفين على الساحة الأدبية وتمكنهم من أن يصهروا في بوتقتهم الكثير من الأدباء، حتى أصبح الكثير من الأدب الذي يحمل السمات الفنية للحداثة يتضمن أموراً منكرة تصل إلى حد الكفر الصريح بالله عز وجل.
التجديد والانحراف الفكري
إن الربط بـين التـجـديد فـي الأدب والانحراف في الفكر، وإيهام الناشئة أن لا يمكن لهم تحقيق التحديث إلا بنبذ العقيدة، واعتبار الموروث الأدبي والموروث الديني سواء في وجوب تجاوزهما والتخلي عنهما أمر مرفوض جملة وتفصيلاً. لذلك يجب أن يحرر لفظ الحداثة مما ربطه به المارقون من أفكار، وأن يبقى ذا دلالة أدبية خالصة.
وإذا كانت ظاهرة الاستهتار بالدين قد فشت في الأشكال الأدبية الجديدة فإن هذا لا يعود إلى ارتباط حتمي بين الأمرين، إذ أن لذلك سبباً آخر هو انتشار الفكر المنحـرف في هـذا العصر بشكل لم يسبق له مثيل بين المسلمين، وكان من الطبيعي أن تظهر هـذه الأفـكـار في الأدب أيا كان شكله واتجاهه، ولو أن الأشكال الأدبية الحديثة لم تظهر وبقي الأدب على شكله القديم لحمل من تلك الأفكار مثلما حمل الأدب الحداثي، آية ذلك أننا نجد الانحرافات العقدية في إنتاج كثير من الأدباء الذين عاشوا قبل ظهور الحداثة، والذين يعدون في ميزان النقاد من المحافظين حيث التزموا بالشعر العمودي، وبطرائق شعراء العصور الأولى، ومن شواهد ذلك قول أحمد شوقي في الوطن:
ولو أني دُعيتُ لكنتَ ديني *** عليه أقابلُ الحتْمَ المجابا
أُديرُ إليك قبلَ البيتِ وجهي *** إذا فُهْتُ الشهادةَ والمتابا
وقول بدوي الجبل:
نشارك الله جل الله قدرته *** ولا نضيق بها خلقاً وإتقاناً
وأين إنسانه المصنوع من حمأ *** ممن خلقناه أطياباً وألحانا
ولو جلا حسنَهُ إنسانُ قدرتنا *** لود جبريل لو صغناه إنسانا
هذه أمثلة لكثير مما تضمنه الشعر التقليدي الحديث من زيغ وضلال، بل إن كثيراً من الأدب القديم يحمل في طياته انحرافات خطيرة في مجال الأخلاق والعقائد، فهناك كثيرون من الأدباء الفساق والزنادقة، وهناك أدباء للمعتزلة والخوارج والرافضة سخروا أدبهم لخدمة معتقداتهم الباطلة..
وإذا فإن ما زعمه بعض المنحرفيـن من الربط بين تحديث الأدب والانسلاخ من العقيدة ومجاراة بعض المخلصين لهم بسبب ما تضمنه الأدب الحداثي من انحرافات عقدية أمر غير صحيح، فتحديث الأدب والتخلي عن طرائق السابقين ومفاهيمهم النقدية أمر لا علاقة له بالعقيدة، فكما أن سير الأديب على منهاج الأقدمين لا يبرر قبول أدبه المنحرف؟ كذلك فإن اتباع الأساليب الجديدة، وتبني المفاهيم النقدية الحديثة ليس مبرراً سليماً لرفض ذلك الأدب إذا كان سليماً من الناحية العقدية. فالمعيار العقدي الفكـري لا مجال لاستخدامه إلا فيما يتعلق بالمضمون الفكري للنص.
أما بالنسبة للمعايير النـقـديـة فـالأمر فيها واسع، ومن حق الناقد أن يرفض ما لا يوافق ذوقه ومفاهيمه النقدية.
وإذا كان بعض المنحرفين فكرياً قد حاولوا تبني مصطلح الحداثة واحتكاره، وهو مصطلح براق، فإن هذا لا يعني التسليم لهم بذلك، بل ينبغي تسمية المنحرف بالاسم الذي يليق به كما كان السلف يسمون أمثال هؤلاء بالزنادقة والمارقين.
وهناك مسألة مهمة مرتبطة بقضية تحديث الأدب، وهي مسألة الدعوة إلى كسر قواعد اللغة العربية، وهذا أمر مرفوض. والفرق واضح بين التجديد في الأدب، وبين العبث باللغة، إذ أن هذا الأمر يمكن أن ينتج عنه نتائج خطيرة تتصل بفهم النصوص الشرعية وتفسيرها، ويؤدي إلى الاضطراب والخلخلة في فهم العقيدة والشريعة.