اللغة العربية: لغة أُمّة وفكر*

لا تستطيع الأمة العربية أن تتشكل في وحدة حقيقية إلا إذا تلاقت في وحدةِ فكر، قِوَامُه ذلك الرصيد الضخم الذي تملكه الأمة العربية من العقائد والشرائع والأخلاقيات في مختلف مجالات الأبحاث الاجتماعية والاقتصادية والتربوية. هذا الفكر هو أرضية الوحدة والتجمع بين أجزاء الأمة العربية. أما اللغة العربية فهي أداة هذا الفكر وهي أبرز طوابعه ومضامينه.

واللغات الأجنبية ليست مجرد لغات حين تفرض نفسها على الأمم، ولكنها مواقع لأفكار هذه الأمم الأجنبية، واللغة العربية ليست لغةَ أمة فحسب، ولكنها لغة أمةٍ وفِكر، ومن هنا ينكشف خطأ الذين يقولون أنه بالإمكان إخضاعها للتطور على النحو الذي يبعدها عن مصدرها الأصيل وهو القرآن، بما يسمونه الدعوة إلى تقريبها أو خلق لغة وسطى بين الفصحى والعامية، ومن المقرر في اللغات المختلفة أن هذه اللغات مِلك للأمم، ولكن اللغة العربية تختلف عن ذلك، حيث يترابط فيها مقوم الأمة ومقوم الفكر، فهي مِلك للأمة من حيث هي أداة التعبير لها، ولكنها أيضا مِلك للمنهج الإسلامي كله باعتبارها وعاءه ومصدره.
ومن هنا كان على الذين يتحدثون عن مظاهر تطور تلك اللغات أن ينتبهوا إلى هذا الفارق الواضح العميق الذي يحاول التغريب أن يخفيه وأن يزيفه حتى يخضع اللغة العربية لما خضعت له اللغة اللاتينبة القديمة حين اختفت وخلفت وراءها اللهجات العامية التي أصبحت بعد لغات وطنية. ولنكن على بينة واضحة صريحة من أن النفوذ الاستعماري الطامع في القضاء على مقومات المنهج الإسلامي من ناحية، وعلى الفصل بين العرب والمسلمين من ناحية أخرى، وعلى الفصل بين أقطار الأمة العربية أيضا يخفي غايته تلك وراء هذه النظريات والمذاهب والدعاوى التي إن صلحت للتطبيق في مجال اللغات الأوربية فإنها لا تصلح بالنسبة للغة العربية التي نزل بها القرآن، فأعطاها ذلك التميز الواضح وتلك الذاتية الخاصة بأنها لغة فكر لمجموعة من المسلمين يبلغ تعدادها اليوم على أقل تقدير سبعمائة من الملايين ومن داخلها الأمة العربية التي تصل إلى مائة مليون، فهي لغة فكر وليست لغة دين فقط بالنسبة لهذه الملايين الستمائة من غير العرب (1)، ومن هنا كان ذلك الملحظ الواضح الذي يدق أو يخفى، والذي يجب أن يكون واضحا صريحا.
وإذا كان هذا القول المردد الضئيل بأن اللغة العربية ليست إلا مجرد وسيلة للتفاهم وليست غاية في ذاتها، هذا القول إن صلح في كل لغة فهو لا يصلح في اللغة العربية لهذا الأمر الهام الخطير، ولأمر آخر ذلك أن العامية لا تستطيع أن تكون أداة للتفاهم بين أبناء العالم العربي في مجموع أقطارهم، ولا في القطر الواحد من هذه الأقطار، ولا تستطيع العامية أن تؤدي الأغراض التي تؤديها الفصحى ولا ترتفع للتعبير عن الغايات والمعاني الرفيعة التي تعرفها الأمم والشعوب في آدابها وفكرها..
ومن هنا سقطت الحملات المتوالية التي شنها النفوذ الأجنبي على اللغة العربية منذ أواخر القرن الماضي في الدعوة إلى العامية، وكان يطلق عليها: اللغة المحكية، ويحاول أن يسميها لغة، ويحاول أن يزيف له تاريخا طويلا يجعلها به منفصلة عن اللغة العربية، كما سقطت الدعوة إلى الكتابة بالحرف اللاتيني، وكان مصدر الهزيمة والسقوط لهذه الدعوات راجعا أساسا إلى الرابطة بين اللغة العربية وبين المنهج الإسلامي، فهي لغة فكر ولغة أمة معا، ويصدق في هذا ما أشار إليه الباحثون المنصفون حين يقول أحدهم: “إن القرآن الكريم هو الكتاب الوحيد الذي احتفظ بلغته الأصيلة، وحفظها على قيد الحياة، وسيحفظها على مر الدهور، وستموت اللغات الحية المنتشرة اليوم في العالم كما ماتت لغات كثيرة في سالف العصور إلا اللغة العربية فستبقى بمنجاة من الموت، وستبقى حية في كل زمان، مخالفة النواميس الطبيعية التي تسري على سائر لغات البشر، ولا غرو فهي متصلة بالمعجزة القرآنية الأبدية، فالكتاب العربي المقدس هو الحصن الحصين الذي تحتمي به اللغة العربية، وتقاوم به أعاصير الزمن وعواصف السياسة المعادية ودسائسها الهدامة”.
وقد أشار سليمان البستاني مترجم “إلياذة هوميروس” إلى هذا المعنى حين قال: “إن اللغة العربية هي أول اللغات الحية عمرا، وأقدمهن عهدا، والفضل في ذلك راجع إلى القرآن، فالإلياذة وبلاغتها وسائر منظومات هوميروس وهسيدوس على علو منزلتهما، لم تُقِم لِلُّغة اليونانية دعامة ثابتة حتى في بلادهما، ولم تَقُم على مقاومة التيار الطبيعي، ولكن القرآن وطد لغة قريش في بلادهم، وأذاعها في جميع البلدان العربية وفي سائر البلاد، وحيث كثرت مخالطة العرب للضاربين في أقطار الأرض للجهاد وللتجارة.
ويقول البستاني: “لا “الماهابهارتا السنسكريتية”، ولا كتابات “كونفوشيوس” في اللغة الصينية، ولا التوراة ولا الإنجيل قامت اللغاتُ التي كُتِبَت بها مقامَ القرآن في اللغة العربية، فلولا القرآن لكان العرب اليوم يتخذون لهجاتِهم وسائلَ إلى التعبير عن وجدانهم وأفكارهم، ولأصبحت أمتنا العربية شعوبا تتكلم لغاتٍ مستقلة كالألمانية والفرنسية والبرتغالية والإيطالية، وإذا كانت اللغة العربية هي دعامة وحدة الأمة العربية، فإنها هي أيضا الرابطة الكبرى بين الأمم التي يُظِلُّها لواء الإسلام، والتي ترتبط مع الأمة العربية بروابط تاريخ مجيد امتد خمسة عشر قرنا.
وفي هذا يقول صلاح السلجوقي: “علينا أن نجاهد كي يبقى القرآن، ولغةُ القرآن هي الخيط الذهبي الذي يؤلف بين قلوبنا دينا وثقافة، كي لا تنفصم العروة التي كنا معتصمين بها، والتي جاهد في سبيلها الآباء، فهذا القرآن يجمعنا وإياكم، كما حفظ كيانكم من الاندثار، في حين أن اللغتين الشقيقتين السريانية والعبرية التين كانتا أوسع نطاقا من العربية قد ماتتا وانقرضتا منذ أمد بعيد”.
ويقول: “إن اللغة العربية ليست محصورة في العرب، وإنها لغة يصلي ويدعو بها ملايين المسلمين، إنها لغة القرآن الكريم الذي أنزل على المسلمين كافة، أُنْزل عليهم وهداهم إلى صراط مستقيم. وكما أن على جميع المسلمين واجبات نحو لغة القرآن فإن لنا حقوقا عليها، لأننا معشر الأعاجم خدمناها أكثر من العرب، والدين والقومية ليس لهما مظهر أجل من اللسان، فهو القرآن وهو الصلاة التي تجمعنا حول كعبة قدسية من الدين والمثل العليا”.
ويشير إلى أهمية هذه الرابطةِ رابطةِ اللغة العربية بين العرب والمسلمين فيقول: “إن المركز اللغوي والثقافي هو بين العرب لا بين العجم، فإذا ما فقد المركز جاذبيته ونقطة ارتكازه فلا شك أن المحيط يتلاشى بتلاشي المركز، وإذا اختلف اللسان فليس هناك شيء يربط بين البلاد العربية”.إهـ
فاللغة العربية بقيت محفوظة مصونة منذ الجاهلية وحتى الآن، وبذلك تميزنا عن الأمم الناطقة بلغة غير العربية، تلك الأمم التي اندثرت لغاتها وتلاشت، حتى أصبح الفرنسي أو الإنجليزي اليوم لا يستطيع أن يقرأ أو يفهم ما قيل وما كتب منذ مائة عام أو أقل، فاضطر أرباب القلم في تلك الأمم إلى إعادة كتابة التراث بلغاتهم المعاصرة، بينما عُصم الناطقون باللغة العربية من الانقسام، وحفظوا جماعةً لغوية يحكي كل منهم كلام أبيه وسلفه، ويتوارثونه آخرا عن أول، وتابعا عن متَّبَع، فيقرؤون القرآن الكريم، ويستمعون إلى آياته تتلى من دون صعوبة، وكأنه أنزل فيهم اليوم، ويقرؤون أشعار المتقدمين من دون مشقة ولا كلفة، وهذه ميزة مَنَّ الله بها علينا مما يفرض علينا المحافظة عليها، لنكون خير خلف لخير سلف، ولنؤدي الأمانة كما تسلمناها.
ومن الحق أن قضية اللغة العربية هي قضية جوهرية في مجال تحديات العصر وعلاقتنا بالنفوذ الأجنبي، وتحديات الأخطار التي تواجه الأمة العربية.. فلنكن على يقظة تامة لمثل هذه التيارات التي تتماوج بها الدعوات الهدامة ضد اللغة العربية، ولنفطن عالمين بأنها لا تقصد اللغة وحدها، ولكنها تطعن في صميم مقومات الأمة ومنهجها وفكرها وقيمها، ولا نقول مع القائلين: “إنما هي اللغة نملكها ولا تملكنا”، فإن هذا قول مشبوه، وهو من أقوال الاستعمار والتغريب والغزو الثقافي، وهو من الشبهات التي تثار الآن في مجال الحرب النفسية للأمة العربية.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) أما اليوم فعدد المسلمين يزيد عن المليار، والعرب أزيد من ثلاثمائة مليون (باستثناء العرب غير المسلمين).
(*) المقال مأخوذ بتصرف من:
– كتاب: “الإسلام على مشارف القرن الخامس عشر”، لأنور الجندي ص: (290-297).
– كتاب: “محاضرات في فقه اللغة”، لعصام نور الدين (ص: 160).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *