(أحَقُ عافٍ بِدَمْعك الهممُ … أحدث شيء عهداً بها القِدمُ)
العافي: الدارس. والهمم: جمع هِمّة وقد قيل هَمة بالفتح. ولا يمتنع أن يكون هِمم جمع همة أيضا، فقد جاءت فعله مكسورة على (فِعَل) كَبدْرة وبِدَر وهضْبة وهضَب. ومن المعتل، ضَيْعَة وضِيعَ، وخَيْمة وخِيمَ.
ومعنى البيت؛ أنه يسفه الناس في بكائهم الديار والأطلال إذا عفت، ويقول لهم: أولى عافٍ بدموعكم هممُ الرؤساء في هذا الزمان، فقد عفت حتى صار أحدث عهد بها قديما، فما تفضل هممهم عن ملاذ بطونهم وفروجهم، فإياها فابكوا لا الديار، فهن أولى بالبكاء عليها منها، لأن الهمة المعدومة أعز فقداً من الدار. واذا كان أحدث عهد بها قديماً، فما ظنك بغير الحداث.
(مِلْتُ إلى من يكادُ بينكما … إنْ كُنتما السائلين يَنْقَسِمُ)
يخاطب صاحبه؛ أي آثرت بقصدي وتأملي من لو سألتموه ولا شيء لديه إلا شخصه لا نقسم بينكما شقين، اعتيادا للنوال وألا يردُ ذوى السؤال.
(يُريكَ من خَلْقه غرائبه … في مَجْدِه كيفُ يخْلَقُ الَّنسَمُ)
إن شئت قلت: إن الله لطف خلقه للنسم كما شاء، حتى دق على الوهم تصور كيفيته، ولهذا الممدوح غرائبُ من خلقه تُوصله إلى اقتناء المكارم، تغرُب وتلطُف؛ فمن تأملها، فكأنه قد تأمل خلق الله للنسم. وذلك تعظيم لقدر ما يأتيه، لشبهه بخلق الله، تعالى عن ذلك! وإن شئت قلت: إنه بحسن أفعاله ويُمنها تحيا النفوسُ، فكأنه بذلك يُحييها وينشئها وليس الخلق عنده في قوله (يريك في خلقه غرائبه) الخلق الذي هو إيجاد المعدوم، وإخراجه إلى التكون، لأن ذلك لا يقدر عليه إلا بارئنا عز وجل، وإنما الخلق ها هنا: كناية عن الصُّنع، وكنى عنه بلفظ الخلق ذهاباً إلى ابتداع هذه الغرائب، وهذا من شديد المبالغة. وربما كنى بالخلق عن الصنع. وبين الخالق والصانع فرقٌ، لا يليق إيضاحه بهذا الكتاب. والنسم: جمع نسمة، اشتقت من النسيم، كما اشتق الروح من الريح، والنفس من النَّفس.
(تُشرقُ أعراضُهم وأوجُهُهُم … كأنها في نُفوسهم شِيمُ)
لا شيء أصغى ولا أبسط من النور، فلذلك توصف الجواهر الصافية به. وأولى شيء بذلك الأمور النفسانية، لأنها أذهب في البقاء وعدم السراب من الجسمانية. والشِّيمة نفسانية، والوجه جسماني. والعِرض: يجوز أن يكون بالجسم، فلم يخلُص إلى النفسانية كخلوص الشيمة، فشبه أبو الطيب الأعراض والأوجه بالشيم في الشروق والصفاء، وتناهى البقاء. وإن شئت قلت: موضع هذا الكلام على أنه قد علم أنه شِيمة مُشرقة علماً عاماً، وقدم ذلك لمزية الشيمة، وهي الطبيعة، على الوجه والعرض، فحمل الوجه والعرض بعد ذلك عليها، تشبهاً لهما بها. والأوجْه ما قدمناه من أن الشيمة نفسانية، فهي أملك بالصفاء، والوجه والعرض جسمانيان، فحملهما عليها.
(كأنها في نهارها قمرٌ … حف بها من جنانها ظُلمُ)
شبه البحيرة في استدارتها بالقمر كقول ابن الرومي يصف رغيفاً:
ما بين رؤيتها في كفهِ كُرة … وبين رؤيتها قوراء كالقمر
وشبه الجنان على حافاتها، وبالظُّلم من شدة خضرتها، وذلك لأن النبات إذا اشتدت خضرته ادهام، كقوله سبحانه وتعالى في وصف الجنتين (مُدْهامَّتان) وقال الراجز يصف سائمة عدت على كلأ ناجم مُخضر:
فصَبَّحتْ أرْعَلَ كالَنَبال … ومظلما ليس على الدغال
وقال: (في نهارها) مستغربا وجود الظُّلم نهارا، واختار ذلك لمكان القمر، إذ القمر في غالب أمره، لا يكون إلا مع الليل، وهذه البحيرة بالشام وليست البحيرة تصغير بحر، لأن البحر مذكر، فلا تثبت الهاء في تصغيره، إنما هي تصغير(بحرة)! وهو القاع العظيم يُنبت السدر، كقول النمر بن تولب في صفة روضة:
وكأنها دَقَرَى تَخيَّل نبتُها … أنفٌ يغم الضال نبتُ بحارِها
وصايا الملوك
وصية ذا جوال
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن ذا جوال واسمه عامر بن حرب بن ذي مقار أقبل على إخوته وولده، فقال لهم: ما كل موصٍ يبلغ فيما يوصي، ولا كل موميء يصيب فيما يومئ، للبلاغة دليل، وللإصابة مواقع والحكم لا يعدو المهيع ولا يضل النهج السوي، أطيعوا الأرشد منكم تعزوا، ولا تعصوا أمره فتذلوا، واجتمعوا تهابوا وترجوا، ولا تتفرقوا فتعادوا وتجووا، وأنصفوا الناس واعدلوا فيما يفضى إليكم من أمورهم تحمدوا وأحسنوا أخلاقكم معهم تسودوا، فالشرف مع الحمد حيث كان، والعفو في الإنصاف حيث استبان، والطاعة مع السؤدد.
ثم أنشأ يقول:
متى ما اجتمعتُمْ نِلتُمُ العزَّ كُلَّهُ … وأُعطِيتُمُ المُلكَ اللقاح المؤثلا
وأضحَى مُواليكُم عزِيزاً مُؤيداً … وأمسى مُعادِيكُم مُهاناً مُذلَّلاً
وصارَ لكُمْ أمرُ الأنامِ ونهيهُمْ … وصِرتُمْ لهُمْ رُكناً وكهفاً وموئلا
بكُمْ يهتدي من يطلُبُ القَصدَ مِنهُمُ … ويسطو بِكُمْ منهُمُ على من تطوَّلا
وما يستوي السَّيفانِ ماضٍ يهُزُّهُ … شجاعٌ ومُلقى صار جُنحاً مُفَلَّلا
وما القاهِرُ المخصُوصُ بالنَّصرِ كالذي … يَضِلُّ ويُمسيْ خائِفاً مُتوجِّلا
وما مَنْ يُنادي قَومَهُ فَتُجِيبهُ … ثمانونَ ألفاً جحفلاً ثم جحفلا
كَمَن لو تنادى آخِرَ الدَّهرِ لم يَجِدْ … لهُ ناصراً إلا غوِيَّاً مُذلَّلا
أمثال العرب
يداك أوكتا وفوك نفخ
وزعموا أن قوما كانوا في جزيرة من جزائر البحر في الدهر الأول، ودونها خليج من البحر، فأتاها قوم يريدون أن يعبروها فلم يجدوا معبرا، فجعلوا ينفخون أسقيتهم ثم يعبرون عليها، فعمد رجل منهم فأقلّ النفخ وأضعف الربط، فلما توسط الماء جعلت الريح تخرج حتى لم يبق في السقاء شيء، وغشيه الموت فنادى رجلا من أصحابه أن يا فلان إني قد هلكت، فقال:
ما ذنبي يداك أوكتا وفوك نفخ فذهب قوله مثلا.
أو كيت رأس السقاء إذا شددته، وقال بعض الشعراء:
دعاؤك حذر البحر أنت نفخته بفيك وأوكته يداك لتسبحا
أسماء خيل العرب وفرسانها
خيل بني سليم
ولمعاوية بن مرداس أيضاً فرس يقال له: الأدهم، قال فيه:
إن تأخذوا الأدهم لا تشأوني ساطٍ إذا طوطئ بعد الأين
الساطي: الواسع، طوطئ بعنانه باليد بعدما يكل يسطو.
ملء حزاميه وملء العين
ينفش بعد الربو منخرين
كنفش كيرين بكفي قين
فرس حزن بن مرداس: الحصاء، كان يقال له: فارس الحصاء، قال:
ولولا الله والحصاء فاظت … عيالي وهي بادية العروق
ولم أر مثل جري ألحقته … بأوطاس لقافلة عقوق
إذا هوت الرماح لها تدلت … تدلي لقوة من رأس نيق
قيس بن نشبة السلمي، فرسه: صدام، قال فيه:
يا آل بكر اصبروا إنني … أنا قيس وصدام الأسد
الأسد: اسم درعه.
ابن عادية الأسلمي، كان حليفاً لبني عصية، اسم فرسه: الورد، قال فيه:
جزاني الورد أشلائي وحشي … وجل ثناؤه عندي وطابا
كزاز، فرس حصين بن علقمة الذكواني، وهو حصين الفوارس، قال فيها:
عدلت كزاز لصدر اللطي … م حتى كأنهما في قرن
وأيقنت أني أمرؤ هالك … فأخطرت نفسي الثناء الحسن
تركت فضالة في معرك … يعالج أحمر مثل الشطن
وهن بنا شرب في الغبار … يعدون عدو إفال السنن
الإفال: الفصلان، والسنن: النشاط.
فرس خفاف بن عمير، وهو ابن ندبة: علوى، قال فيها يوم قتل مالك بن حمار الفزاري:
إن تك خيلي قد أصيب صميمها … فغمداً على عيني تيممت مالكا
نصبت له علوى وقد خام صحبتي … لأوثر مجداً أو لأثأر هالكا
فقلت له والرمح يأطر متنه … تأمل رويداً إنني ذلك