قصيدة “اللغة العربية والشرق” التي جاءت في الجزء الثاني من ديوان مصطفى صادق الرافعي هي قصيدة يبكي فيها الشاعر والأديب ما آلت إليه اللغة العربية، وعزا ذلك إلى كيد أبنائها لها، لأنهم لم يراعوا فيها ما أرضعتهم إياه، وقد يجني النسب كثيرا من الأحزان على من ينتسب إليه.
وصور الرافعي إهمال العرب للغتهم الأم التي يكيد لها أبناؤها، وهذا منتهى العقوق الذي يمكن تصوره، لأن هذه الأم كانت سببا في كل مكرمة نالها هؤلاء العرب، فقد وصلت لغتهم إلى مشارق الأرض ومغاربها، ثم بعد كل هذا، تراهم إن نطقوا نطقوا بلغة لا يكاد يعرفها غيرهم، والرافعي يشير بذلك إلى اللغة العامية التي لا تعرف إلا بين الناطقين بها، أما اللغة العربية فإن الأمة العربية كلها تشترك فيها، وتتبين ملامحها.
ثم أخذ الرافعي يتحدث عن تاريخ اللغة العربية، وكيف أنها استمرت طوال الدهر ناصعة كالبدر حتى طمست السحب من نوره، ثم حدث لها ما حدث في تاريخها الحديث.
وأخذ بعد ذلك يوجه حملته على الغرب الذي حاول طمس اللغة العربية، والدعوة إلى لغته.
إنها صيحة قوية يرسلها الرافعي، حتى يدرك الجميع أن اللغة العربية ما زالت تعطي، وتقدم للجميع ما يمكن أن يجعلهم يفخرون بها، فهي كالنهر العذب الذي يجب علينا أن نحافظ عليه، ولا نتركه يضيع في بحر اللغات الأخرى.
وهذه قصيدته التي أرسل فيها حِكمه الرائعة:
أمٌّ يكـــــيدُ لهـــا مــــن نَسْلِهــــــا العَقِبُ *** ولا نقيـــصةَ إلاَّ مـــا جنَـــى النَّسَـــبُ
كانتْ لــــهم سببًا فـــــي كـلِّ مكـــــرمةٍ *** وهمْ لنكبــــتها مـــن دهـــرِها ســـببُ
لا عيبَ في العــَربِ العَرْباء إنْ نَطــَقوا *** بـــين الأعــــاجــمِ إلاَّ أَنَّــــهُم عَـــرَبُ
والطيرُ تصـــــدحُ شتَّـــى كالأنامِ ومـــا *** عند الغـراب يُزَكَّـــى البُــــلبلُ الطَّرِبُ
أتى عليها طَــــــوال الــــدهرِ ناصــعةً *** كطلعــــةِ الشمـــس لم تَعْلَقْ بها الرِّيَبُ
ثم استفاضـــتْ دَيــــاجٍ فــي جَوانِبِـــها *** كالبــــدرِ قد طَمَسَتْ مِن نورِهِ السحبُ
ثــم استضــاءَتْ، فقالوا: الفـــجرُ يَعْقِبُهُ *** صــــــبحٌ، فكــــانَ ولكنْ فجرُها كَذِبُ
ثــم اختفــــتْ وعلينا الشـمس شـــاهدةٌ *** كـــأنَّـــها جمرةٌ في الجـــــوِّ تلتـــهبُ
سَلُوا الكواكـــبَ كـــم جــــيلٍ تَدَاولَــها *** ولــــم تَزَلْ نَيِّــــراتٍ هــــذه الشــهبُ
وسائلوا الناسَ كم في الأرضِ من لغةٍ *** قـــديمةٍ جـــدَّدت من زهوها الحِقَبُ؟
ونحنُ في عَجــَبٍٍ يلهُـــو الزمـــانُ بنا *** لـم نَعْتَبِرْ ولَبِئْسَ الشـــيمةُ العَجـــَبُ!
إنَّ الأمورَ لــــمن قدْ بــــاتَ يَطْـــلبُهـا *** فكـــيف تـــبقى إذا طلاَّبُها العَــجَبُ!
إنَّ الأمــــورَ لــمن قدْ بــاتَ يَطْـــلبُها *** فكيف تبقـــى إذا طـــلاَّبُها ذَهـــبوا؟
كـــانَ الزمانُ لنـــا واللِّسْنُ جـــامـعةٌ *** فقـــد غـــــدونا لهُ والأمـــرُ ينـــقلِبُ
وكـــانَ مَن قَبْـــلَنا يرجونـــــنا خَلَــفًا *** فاليومَ لو نَظَرُوا مـن بــــعدهمْ نَدَبُوا
أَنتـــركُ الغـــربَ يُلْهـــِينَا بزُخْـــرُفِهِ *** ومَشْرِقُ الشمسِ يَبْـــكِينا ويَـــنْتَحِبُ؟
وعنـــدنا نهـــرٌ عـــذْبٌ لشـــــاربـــهِ *** فكيفَ نتركـــهُ في الـــبحرِ ينسربُ؟
وأَيُّمـــا لغةٍ تُنْسِـــي امــــرئ لــــــغةً *** فإنـها نكبـــــة مــــن فيـــهِ تنسكـــبُ
لكَم بكَى القولُ في ظلِّ القصورِ على *** أيامَ كــــانتْ خيامُ البيـــدِ، والطُّنُـــبُ
والشــــمسُ تلفحــــُهُ والريـــحُ تنفخُه *** والظلُّ يـــعوزهُ والـــماءُ والعـــشُبُ
أرى نفوسَ الورى شــتى، وقيــمتُها *** عندي، تأثُّرهـــا لا العـــزُّ والرُّتـــبُ
ألم ترَ الحَطَب استــعلى فصارَ لظًى *** لمَّا تأثَّر مِن مَـــسِّ اللظى الحَــطَبُ؟
فهل نُضـــَيِّعُ ما أبقـــى الزمـــانُ لنا *** ونَنْفضُ الكفَّ لا مجــدٌ ولا حَسَــبُ؟
إنَّـــا إذًا سُبَّةٌ في الشـــــرقِ فاضحةٌ *** والشرقُ منا، وإنْ كنـــا به، خَـــرِبُ
هيـــــهاتَ ينفعُــنا هذا الصياحُ، فما *** يُجدي الجبانَ، إذا روَّعْتَه، الصَّخَبُ؟
ومنْ يكنْ عاجزًا عــــن دفعِ نائـــبةٍ *** فقصــرُ ذلك أن تلـــــقاهُ، يَحْتـــَسِبُ
إذا اللغاتُ ازدهت يومًا فقد ضَمِنَتْ *** للــعُرْب أيَّ فخارٍ بينــــها الكــــتبُ
وفـي المعادنِ مـــا تمضــي برونقِهِ *** يدُ الصدا، غيرَ أنْ لا يَصْـدأ الذهبُ