تركيا الإسلامية ذ.إبراهيم أبو الكرم

الله أكبر كم في الفتح من عجب ياخالد الترك جدد خالد العرب

قاله أمير الشعراء شوقي مادحا حاكم تركيا العلماني مصطفى كمال أتاتورك لما انتصر على اليونان، فنظم قصيدته التي عارض بها قصيدة أبي تمام المشهورة في فتح عمورية، ثم ما فتئ الأمير أن اصطدم كغيره بالحقيقة، فأُسقط في يده لما اكتشف كما اكتشف العالم أجمع أن (خالد الترك) قد بدد مجد العرب والعجم بدل أن يجدد (خالد العرب).
ولقد سبقت تلك القصيدة أوانها؛ فزُفت إلى لئيم لا يستحقها، فإن مقاسها يأبى أن تقترن بهذا العلماني الحاقد، بما تحتوي عليه من أوصاف تخالفه في كل جزئياتها. ففيها:

وَلا أَزيدُكَ بِالإِسلامِ مَعرِفَةً *** كُلُّ المُروءَةِ في الإِسلامِ وَالحَسَب
إلى أن قال:
خَيلُ الرَسولِ مِنَ الفولاذِ مَعدِنُها *** وَسائِرُ الخَيلِ مِن لَحمٍ وَمِن عَصَب
إلى أن قال:
يَومٌ كَبَدرٍ فَخَيلُ الحَقِّ راقِصَةٌ *** عَلى الصَعيدِ وَخَيلُ اللهِ في السُحُبِ
إلى أن قال:
تَحِيَّةً أَيُّها الغازي وَتَهنِئَةً *** بِآيَةِ الفَتحِ تَبقى آيَةُ الحِقَبِ
إلى أن قال:
أَخرَجتَ لِلناسِ مِن ذُلٍّ وَمِن فَشَلٍ *** شَعبًا وَراءَ العَوالي غَيرَ مُنشَعِب
إلى أن قال:
هَزَّت دِمَشقُ بَني أَيّوبَ فَانتَبِهوا *** يَهنَئونَ بَني حَمدانَ في حَلَبِ
وَمُسلِمو الهِندِ وَالهِندوسُ في جَذَلٍ *** وَمُسلِمو مِصرَ وَالأَقباطُ في طَرَبِ
مَمالِكٌ ضَمَّها الإِسلامُ في رَحِمٍ *** وَشيجَةٍ وَحَواها الشَرقُ في نَسَبِ
مِن كُلِّ ضاحِيَةٍ تَرمي بِمُكتَحَلٍ *** إِلى مَكانِكَ أَو تَرمي بِمُختَضَبِ
تَقولُ لَولا الفَتى التُركِيُّ حَلَّ بِنا *** يَومٌ كَيَومِ يَهودٍ كانَ عَن كَثَبِ
بيد أن التاريخ حفظ لأتاتورك مواقف مخزية مخالفة لكل ما قيل فيه، فهو أحقد ما يكون على الإسلام؛ وقد ألبس الناس الذل، بدل أن يخرجهم منه، فهو الذي اقترح: إلغاء الخلافة، وقطع علاقة الدولة بالإسلام، وتجميد وشل حركة جميع العناصر الإسلامية الباقية، واستبدال الدستور القائم بآخر مدني، وألغى وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وغلق المدارس الشرعية، وبالغ في عقاب كل من ظهر عليه أثر إسلامي، وبلغ به الحقد ومحاربة المظاهر الإسلامية أن عاقب على اللباس ذي الطابع الإسلامي.
مات شوقي وبقيت قلادة أبياته معلقة دون جيد يليق بها، إلى أن منّ الله على تركيا بحكم ذي مرجعية إسلامية، أعاد لتركيا الذكرى بأيام خلافتها، فهي الدولة التي آلت إليها الخلافة خلال ستة قرون ونصف من الزمان، وهي التي أنبتت الملك العادل ألب أرسلان أبو شجاع محمد بن السلطان جغري بك داود ميكائيل بن سلجوق، الذي حدد أهدافه في ضمان وحدة الدولة تحت حكم العباسيين، ومواجهة الخطر العبيدي الفاطمي، ونشر الإسلام في البلاد النصرانية المجاورة كأرمينيا وبلاد الروم، وهو بطل موقعة ملاذ كرد سنة 463هـ/1071م، التي أعز الله فيها الإسلام والمسلمين ضد ملك الروم رومانوس، كما ولدت الملك ملكشاه الذي كان له أثر ظاهر في نصرة الإسلام في دولة السلاجقة، قبل نشأة انتقال الخلافة إليهم لتحمل اسم: الدولة العثمانية، التي عرفت اتساعا كبيرا عن طريق الفتوحات، وولدت مفخرة المسلمين، صلاح الدين الأيوبي وغيره من أبطال المسلمين.
ثم توالت جهود الأتراك في خدمة الإسلام، والدعوة إلى شريعة التوحيد فأرسلوا دعاة الإسلام إلى بلاد التبت: فأسلم كثير من سكانها بغير تردد، ثم نشروا الشريعة الإسلامية فى بلاد إخوانهم الذين يسكنون هضاب «مغولستان» و«منغوليا».
وذهب التركستانيون أيضا إلى المدن الصينية المجاورة للتركستان الشرقية، ونشروا الدعوة الإسلامية فيها، فأسلم عدد كبير من الصينيين، فلذلك نرى أن أكثر المواطن الصينية احتشادا بالمسلمين هي المواطن التى تتاخم بلاد تركستان. ويذكر البعض أن اللفظ الذى يدل على المسلم ويعبر عن معناه فى اللغة الصينية، هي كلمة «خوى» هي التي تعنى المسلم، وهي محرفة باعتراف الصينيين عن كلمة «اويغور» التي هي أشهر قبيلة تركية، تكون أكبر عدد في التركستان الشرقية.
ولم تنحصر جهود المسلمين الأتراك في هذا الميدان وحده ولكنهم رفعوا لواء الإسلام عاليا عند إخوانهم من أتراك البلغار، وسواحل نهر فلجا «أثيل»، وساروا بدعوتهم القوية في كل ما أمكنهم الوصول إليه من البلاد الشمالية، ومضت خطاهم في سبيل الله حتى شرقي أوربا.
كما كان لهم الفضل في نشر الإسلام في بلاد الهند عن طريق فتوحات السلطان محمد الغزنوي الذي حارب الوثنية والديانات الهندوكية هناك، وصدع بأمر الله في جهاد الكفر، وحطم الأصنام في معاقلها الحصينة، ونشر دين التوحيد في ربوع الهند.
ثم تدهور الحكم العثماني، ونعتت الخلافة العثمانية بالرجل المريض، نتيجة ابتعاد الناس عن دينهم، وفارقتهم العزة لما ابتغوها في غير الإسلام، ونَخَر الذل في عظم الأمة، حتى تلقت ضربتها القاضية؛ إذ انبعث أشقاها، فألغى الخلافة وأعلنها علمانية.
تركيا المعاصرة
عمل النظام الأتاتوركي على مدى سنوات عديدة على تغريب تركيا وطمس ثقافتها وهويتها الإسلامية؛ فلم تحصد من الحكم العلماني إلا مزيدا من الأزمات تلو الأزمات، وتخبطا في متاهات التدهور والتخلف، والتاريخ شاهد؛ والآن وبعد أن قضت الأمة التركية ما قضته رازحة تحت طغيان العلمانية، مكتوية بنارها في شتى مجالاتها، هاهي ترفع رأسها مرة أخرى، لتذكرنا بأيام المجد الأثيل. وتثبت للعالم أجمع أن اقتراب الحكم نحو الإسلام الصحيح، يعني اقترابها من النصر والعز والتمكين.
فجاء عام 1994، ليحمل مفاجأة للعلمانيين، وليخلق متنفسا لشعب تركيا ليجرب ما لم يجربه من قبل، حيث حقق حزب “الخير” الإسلامي مفاجأته الكبرى باكتساحه الانتخابات المحلية لأكبر مدينتين تركيتين؛ أنقره واسطنبول، ليكون أول انتصار إسلامي يتم تحقيقه في الحياة السياسية التركية، فيفرض سيطرته بعد ذلك على معظم مقاعد البرلمان عام 1995 ليضع الإسلاميون بذلك على قمة التحالف الشعبي المكلف لإدارة البلاد.
إلا أنه في عام 1997 تمت الإطاحة بالحزب وزعيمه آربكان من السلطة على يد الجيش الذي بدأ يشعر بالخوف على الدولة التي باتت علمانيتها مهددة ببعض الإجراءات الجديدة مثل السماح بارتداء الزي الإسلامي ومنع إجراء تحالفات دولية مع الدول الغربية.
ولم يكن سهلا للفأس العلماني استئصال جذور الحركة الإسلامية، فقد انبثق شعاعها مرة أخرى عام 2001 من بين ركام حزبي “الخير” و”الفضيلة” السابقين، فظهر حزب “العدالة والتنمية” الذي أسسه “أردوغان”، رئيس بلدية اسطنبول وقتها، والذي اتخذ من شعار “ديمقراطية محافظة” توصيفاً لنهج أجندة الحزب السياسية بدلاً من “سياسة ذات مرجعية إسلامية”، فلطالما آمن أردوغان أن حرية الممارسات السياسية سيكون لها دور كبير في تعزيز قوة الحزب الجديد.
وللبحث بقية نرجوها إلى العدد القادم بحول الله وتوفيقه..

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *