ضياع الأدب بين المعري وزكي ذ. إبراهيم أبو الكرم

الحداثة في بلاد الإسلام لقيط؛ ولدَ سفاحا، من أم علمانية ذات أصول عربية، وأب أوروبي ذي نسبة غربية، والوليد دميم قبيح في خلقته، يظهر بلباس غربي أنيق، يصرح من طلعته بنسبه الغربي، لكنه بلسان عربي، ألهمته إياه أمه التي لا تزال تربيه بلبانها في بلاد المسلمين، والوليد عاق متنكر لكل أب وأم، وإن كان على دربهما يسير، يَعُدّ احترام تاريخ أمه رجعية وتقهقرا، ويُكِنّ للبلاد التي أنتج فيها ولأهلها كل البغض، ويؤمن بلادينية أبيه، ويعتنق الإباحية في كل شيء، ولا يعترف بنصف عرقه العربي، وإن كان تحليله الجيني يقر بذلك، إلا أنه يُجل من العرب من خرج عن مبادئ الدين، وشذ عن الفطرة والحياء، فتراه لا يذكر من أجداده من جهة أمه إلا أبا نواس، ويعجبه ما خلفه من التغزل بالمردان، وينتشي بشعر الغزل الواصف لمكامن المرأة ومحاسنها، كما يعجبه شعر الخمريات، أما الشعر الذي يظهر نقص الإسلام، ويتهمه بتكليف الناس والتناقض، ويزهدهم فيه، فهو الشعر الراقي الذي يملؤ صدره، ويظل يعظم أبا العلاء.

ونراه في ندوة من ندواته تحت عنوان: الحداثة في الشعر بين القديم والحديث، يجعل محور حديثه المعري وزكي قنصل.
وقد أعجبته من أبيات المعري ما أورده على الفقهاء من التناقض: قائلا:
يد بخمس مائين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
وأورد من أبيات زكي قنصل الشاعر السوري ما يورده من التناقض على عقيدة المسلمين.
وأنا على طاولة الانتقاد، في مناقشة لأبيات زكي، الذي لم يزكّ أدبه، ومورد نتفا مما قيل في أبي العلاء وأبياته.
أبو العلاء أحمد بن عبد الله بن سليمان من معرة النعمان بسوريا توفي سنة 449هـ كان متهماً في دينه، يرى رأي البراهمة، لا يرى إفساد الصورة، ولا يأكل لحماً، ولا يؤمن بالرسل، والبعث والنشور، وعاش شيئاً وثمانين سنة، لم يأكل اللحم منها خمساً وأربعين سنة.
وفي سير أعلام النبلاء للذهبي أنه نزَل ديرا به رَاهبٌ مُتفلسِفٌ، فدخل كلامه في مسامع أبي العلاء، وحصلت له شكوكٌ لم يكن له نور يدفعها، فحصل له نوع نوع انحلال دلَّ عليه ما ينظمه ويلهج به، ويقال: تاب من ذلك وارعوى.
أما البَاخَرزِي فقد تحدث عن صاحبنا بكلام جميل في لفظه، غير مرض في معناه فقال: أَبُو العَلاَءِ ضرِيرٌ مَا لَهُ ضرِيب، وَمكفوفٌ فِي قَمِيْص الفَضْل مَلْفُوف، وَمحجوبٌ خَصمه الأَلد مَحْجُوج، قَدْ طَالَ فِي ظلّ الإِسْلاَم آنَاؤُهُ، وَرشَح بِالإِلْحَاد إِنَاؤُه، وَعِنْدنَا خَبَرُ بصرِهِ، وَاللهُ العَالِمُ بِبصِيْرتِهِ وَالمطَّلعُ عَلَى سرِيرته، وَإِنَّمَا تحدَّثتِ الأَلْسُنُ، بِإِسَاءته بِكِتَابه، الَّذِي عَارض بِهِ القُرْآن، وَعنونه بـ(الْفُصُول وَالغَايَات فِي محَاذَاة السُّوْر وَالآيَات).
فهذه نبذة يسيرة من كلام القادحين في أبي العلاء من جهة ما صرح به من كلام قبيح في الشريعة، وأنت ترى أن العلماء في تعاملهم مع هذه الحالات لا يقصون الأديب كلية بقدر ما يعالجون ما زلَّ فيه قلمه.
وكل المسلمين متفقون على أن الشريعة الإسلامية أكرم من كل أحد كان، ومهما عظم شأن الرجل فلا كرامة له أمام بيان خطئه في حق معتقد أعظم أمة من الأمم. ومع ذلك فهم يرجعون السرائر إلى العالم بخفيات القلوب، ولا يحكمون عليه لا بجحيم ولا بنعيم، وإنما يستنكرون طلق العنان للخيال الشعري حتى يخرجه عن حدود الصواب، ويورده وخيم العاقبة، كما يورد الحبط البقرة الموت.
أما قلة من العلماء فقد رأوا أنه تاب من ذلك، وتقدمت إشارة الذهبي إلى ذلك وأضيف هنا ما حكاه أبو الطاهر السِّلفي:
قَالَ السِّلَفِيّ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى صِحَّة عَقيدَتِهِ مَا سَمِعْتُ الخَطِيْب حَامِدَ بنَ بختيَار، سَمِعْتُ أَبَا المَهْدِيّ بنَ عبدِ الْمُنعم بن أَحْمَدَ السَّرُوجِي، سَمِعْتُ أَخِي أَبَا الفَتْح القَاضِي يَقُوْلُ:
دَخَلتُ عَلَى أَبِي العَلاَءِ التنوخِي بِالمَعَرَّة بَغْتَةً، فَسمِعتُهُ يُنشدُ:
كَمْ غُودِرَتْ غَادَةٌ كَعَابٌ … وَعُمِّرت أُمُّهَا العَجُوْزُ
أَحرَزَهَا الوَالِدَانِ خَوفاً … وَالقَبْرُ حِرْزٌ لَهَا حَرِيزُ
يَجوزُ أَنْ تُخْطِئ المنَايَا … وَالخُلْدُ فِي الدَّهْرِ لاَ يَجُوْزُ
ثُمَّ تَأَوَّهَ مَرَّات، وَتَلاَ قَوْله تَعَالَى :{إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ }إلى قوله تعالى:{فَمِنْهُم شَقِيٌّ وَسَعِيْدٌ}.
ثُمَّ صَاح وَبَكَى، وَطرح وَجهه عَلَى الأَرْضِ زَمَاناً، ثُمَّ مَسحَ وَجْهَهُ، وَقَالَ: سُبْحَانَ مَنْ تَكَلَّمَ بِهَذَا فِي القِدَمِ!
سُبْحَانَ مَنْ هَذَا كَلاَمُه!
فَصبرتُ سَاعَةً، ثُمَّ سَلَّمْتُ، ثُمَّ قُلْتُ: أَرَى فِي وَجْهِكَ أَثَرَ غِيظٍ؟ قَالَ:لاَ، بَلْ أَنشدتُ شَيْئاً مِنْ كَلاَم المَخْلُوْق، وَتَلَوْتُ شَيْئاً مِنْ كَلاَم الخَالِق، فَلَحِقَنِي مَا تَرَى. اهـ.
أما ما استنكره العلماء من شعره فكثير زاد عن القلتين، فتعذر الاعتذار، إلا أن يصح ما قيل من توبته. ومن ذلك:
فقد طال العناء فكم تعاني … سطوراً عاد كاتبها بطمس
دعا موسى وزال وقام عيسى … وجاء محمد بصلاة خمس
وقيل يجئ دين غير هذا … فأودى الناس بين غد وأمس
إذا قلت المحال رفعت صوتي … وإن قلت اليقين أطلت همسي
ومن ذلك أيضاً:
وجدت الشرع تخلقه الليالي … كما خلق الرداء الشرعبي
هي العادات يجري الشيخ منها … على شيم تعودها الصبي
وأشوى الحق رام مشرقي … ولم يرزقه آخر مغربي
فذا عمر يقول وذا سواه … كلا الرجلين في الدعوى غبي
ومن ذلك أيضاً:
إذا ما ذكرنا آدماً وفعاله … وتزويجه بنتيه لابنيه في الخنا
علمنا بأن الخلق من أصل زنية … وأن جميع الناس من عنثر الزنا
وكثر ما أورده من التناقض في زعمه على الشرع الحنيف، تعالى الله عما يقول إن صح علوا كبيرا، وجلت الشريعة عن ذلك جلالا عظيما. ومن ذلك:
عقول تستخف بها سطور … يدري الفتى لمن الثبور؟
كتاب محمد وكتاب موسى … وإنجيل ابن مريم والزبور
أنهيت عن قتل النفوس تعمداً … وبعثت أنت لقتلها ملكين؟
وزعمت أن لها معاداً ثانياً … ما كان أغناها عن الحالين!!
واشتهرت عنه أبيات قالها عن حد السرقة:
يد بخمسمائين عسجد وديت ما بالها قطعت في ربع دينار
تناقض مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بربنا من النيران
وقد نالت جل أبياته التي جنى فيها على الشرع، حظها من الرد والصد، والبيان الحكيم، وهو أمر ظاهر، ومما قيل في أبيات السرقة: لما كانت أمينة، كانت ثمينة، لما خانت هانت، أي أن اليد في حال أمانتها تكون شريفة وغالية ثمنها، فحينما تسرق وتخون تُهان.
ولن نجد في الاعتذار لأبي العلاء أحسن مما وسمه به غرس النعمة من الجنون والعته والحيرة، في تعليقه على قول أبي العلاء: هذا جناه أبي عليّ وما جنيت على أحد. فقال: الفَلاَسِفَة يَعدُّوْنَ اتخَاذ الوَلَدِ وَإِخرَاجَهُ إِلَى الدُّنْيَا جنَايَةً عَلَيْهِ، وَيظهرُ لِي مِنْ حَال هَذَا المَخْذُول أَنَّهُ مُتَحَيِّرٌ لَمْ يَجزِم بِنِحْلَةٍ.
ومن الأجوبة على أبياته في حد السرقة قَوْلُ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ مُجِيبًا لَهُ فِي بَحْرِهِ وَرَوِيِّهِ:
عِزُّ الْأَمَانَةِ أَغْلَاهَا وَأَرْخَصَهَا … ذُلُّ الْخِيَانَةِ فَافْهَمْ حِكْمَةَ الْبَارِي
ومن الواضح: أن تلك اليد الخسيسة الخائنة لما تحملت رذيلة السرقة وإطلاق اسم السرقة عليها في شيء حقير كثمن المجن والأترجة، كان من المناسب المعقول أن تؤخذ في ذلك الشيء القليل، الذي تحملت فيه هذه الرذيلة الكبرى.
فانظر ما يدعو إليه القرآن من مكارم الأخلاق، والتنزه عما لا يليق، وقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا يدل على أن التشريع السماوي يضع درجة الخائن من خمسمائة درجة إلى ربع درجة، فانظر هذا الحط العظيم لدرجته بسبب ارتكاب الرذائل .
يتبع..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *