تعد اللغة -بصفة عامة- ركنا تقام عليه حضارة الإنسان، وعاملا مهما في تقويم الفرد وتكوين شخصيته، وتشكيل ثقافته، وبناء مجتمعه. و هي الرابط الفكري بين الأمة الواحدة وأداة التواصل بينها، والشعار الذي يميزها عن غيرها. بل هي الوعاء الذي يحفظ هويتها، وأي تغيير أو تحريف يلحق لغة ما في مضمون ألفاظها و مدلول مصطلحاتها فهو -لا محالة- إلحاق التغيير في سير الأمة بكاملها، واقتلاع لجذورها، وفسخ هويتها، حيث تتغير التصورات وتقلب المفاهيم وتشوه الحقائق وتتداخل الدلالات فيغيب التواصل. وحينها تفقد اللغة أثرها الفعلي في توحيد الأمة الذي هو أسمى دورها.
و الأمة التي لا تحسن لغتها تنسلخ ضمنيا عن ثقافتها ومبادئها، وتكون عالة على غيرها وتابعة له.
اللغة العربية مادة تعبيرية
اللغة العربية مادة تعبيرية يشملها كل ما يشمل اللغات من خصائص، و تشترك معها في الأهداف، وهي تعتبر لغة رسمية ضمن اللغات الخمس الكبرى في العالم ، إضافة إلى استحضار أنها لغة أنزل بها القرآن، حيث تجاوز بها الحد إلى الربط بين كل من هو مسلم، بغض النظر عن جنسه وأرضه وقومه وأصل لسانه، وذلك لكونها اللسان الناطق بالإسلام؛ المعبر عن مدلوله، المترجم لمراده. ومن ثم فمن غير إدراك دلالة اللفظ العربي وفق المعنى الذي وضع له في أصل لغته القرآنية، فإنه يستعصي إدراك معنى الإسلام على حقيقته، وبالتالي فأي تزييف يحصل في مدلول ألفاظ اللغة العربية، فهو تلقائيا تزييف في مفهوم الإسلام، وانحراف في تربية المسلمين. لأن العربية لغة استوعبت كل مطالب الدين الإسلامي، فهي بنزول القرآن باتت لغة دينية، مهمتها إنشاء الشخصية الإسلامية، وتشكيل هويتها عقديا وسلوكيا.
إدراك الغرب الصليبي لدور لغة القرآن
لقد أسهم عامل التاريخ والخبرة في تمكين الغرب الصليبي -وذلك بعد خوضه سلسلة من الحروب العسكرية التي أنهكت قواه ضد المسلمين- من إدراك دور اللغة العربية القرآنية وما تملكه من سلطان على روح الشعوب الإسلامية، بفضل ما تشتمل عليه من أسلوب بياني عميق، وتعبير مؤثر يهز القلب، ويستنهض المشاعر، ويوقظ الهمم، ويرفع المعنويات. في تناسق بديع متميز يبعث في النفس عزة، تخلصها من الرضا بالمذلة، وتحررها من الخضوع لغير لله. حيث خلص -الغرب الصليبي- إلى أنه يستعصي عليه إحكام قبضته على البلاد الإسلامية وبسط هيمنته الفكرية عليها، من غير الفصل بين المسلمين ولغة هذه طبيعتها. يقول الجينرال “ليوطي”: “إن العربية عنصر أسلمة لكونها لغة القرآن، أما مصلحتنا فتفرض علينا أن نجعل البربر يتطورون خارج إطار الإسلام” . وقال: “..من الوجهة اللسانية علينا أن ننزع إلى المرور مباشرة من البربرية إلى الفرنسية”.
فوصف “ليوطي” اللغة العربية بأنها عنصر أسلمة يدل دلالة قوية على عمق إدراكه لسرّ قوة اللغة العربية في قالبها الإسلامي. حيث قوتها -في نظره- لا تكمن في مجرد كونها لغة -حروف وكلمات وجمل- فحسب، فهي بهذا الوصف كانت قائمة قبل الإسلام، لكنها لم تصنع ما صنعته لغة القرآن في فكر الإنسان وتوجهه العقدي.
وهذا المستشرق “كامفاير” يقول في شماتة، عندما ألغي الحرف العربي في تركيا: “إن قراءة القرآن العربي وكتب الشريعة الإسلامية قد أصبحت مستحيلة بعد استبدال الحروف العربية بالحروف اللاتينية ” .
هذا كله يساعدنا على إدراك حقيقة المنطلق وسر مبادرة المستعمر الصليبي -بعد استيلائه على البلاد الإسلامية وسيطرته على حدودها- إلى فرض لغة بلاده في البلدان التي استعمرها، لتحل محل العربية -على الخصوص- في المؤسسات التعليمية، والدوائر -حكومية كانت أو خاصة-، مما حور هذا الاستيلاء تلقائيا من احتلال عسكري إلى غزو فكري، وهذا الأمر هو عين ما عبرت عنه أمريكا بـ: “تجديد الخطاب الديني” وذلك في حربها الأخيرة على البلاد الإسلامية بعد امتلاكها زمام العالم، والغاية منه تغيير مفهوم الإسلام، والتشكيك في التصور الصحيح لمعاني القرآن، وتفريغها من مضمونها الأصيل، وذلك بتحريف المصطلحات الرئيسية عن مقصودها الحقيقي، أو باختزالها في معان محدودة تفقدها شمولية مدلولها؛ كمصطلح: الإسلام، والجاهلية، والإله، والدين، والعبادة، والعدل، والظلم، والنفاق، والجهاد، والولاء والبراء، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. إلى غيرها من المصطلحات التي تعتبر أسس بناء الفكرة الإسلامية. وهذا كله قصد تحقيق إعادة تشكيل الإسلام في أذهان المسلمين وفق ثقافتهم الغربية. يقول “فوكوياما”: “أنا أرى أن التوفيق ممكن بين الإسلام كدين وبين الحداثة؛ فالإسلام يمثل ديناً ونظاماً ثقافياً معقداً للغاية، وقد أثبت قدرته على التوافق مع الحداثة في عدد كبير من المجتمعات والأفراد، ولا أرى هناك سبباً يمنع من وجود شكل حديث للإسلام، غير أن “نوع الإسلام” الصحيح لا يمكن أن يتفق مع الحداثة، والقضية الأساسية هي إمكانية وجود دولة علمانية تجعل الإسلام بين أربعة حيطان” .
نعم شكل حديث للإسلام؛ لأجل إنتاج جيل عقليته مزدوجة؛ انتماؤه يكون للإسلام، وفكره ونظرياته ومبادؤه تكون من الغرب، جيل يقوم مقام الغرب في بلاد المسلمين يحقق له أهدافه، ويعمل لحسابه، جيل هيكله عربي لكنه منطبع بطابع غربي، جيل أكبر همه الركد وراء شهواته وشكله ومظهره، وشغله الشاغل دنياه. مشوه التصور يَعتَبرُ التَفَلّت من أحكام الشريعة تحررا، والانضباط بأوامرها حرمانا. مشتت الفكر، لا يملك سياسة تجمع شمله، أو نهجا يوحد صفّه، طابعه المميز له هو الفرقة والتناحر. هذا إسلام قومِي، وذاك إسلام وطني، وثالث إسلام حَداثي أو مَدني، ورابع إسلام عصري، وخامس إسلام راديكالي.. هكذا وكلها تنصهر في مخطط علمنة الإسلام. أو إنشاء إسلام علماني، أو بتعبير أصح إسلام بمعايير غير إسلامية. يقول القس “زويمر” في خطاب تهنئته للهيآت التبشيرية المتواجدة بالعالم الإسلامي: “إنكم أعددتم بوسائلكم جميع العقول في الممالك الإسلامية، إلى قبول السير في الطريق الذي مهدتم له كل التمهيد، إنكم أعددتم نَشْأً لا يعرف الصلة بالله ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام ولم تدخلوه في المسيحية وبالتالي جاء النشء الإسلامي طبقا لما أراده الاستعمار، لا يهتم بالعظائم ويحب الراحة والكسل، فإذا تعلم فللشهوات، وإذا جمع فللشهوات، وإن تبوأ أسمى المراكز ففي سبيل الشهوات يجود بكل شيء) .
وهذا النص يكشف مدى الحقد والحسد الذي تكنه نفوس الصليبيين للمسلمين، و ما تضمره صدورهم من الكيد لهم، وصدق الله العظيم “وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ” البقرة ، و لقد استطاع الغرب تحقيق جزء وافر من الدمار الفكري، تطلب منه جهدا كبيرا، ووسائل كثيرة، وطاقات عدة، تمثلت في إرسال البعثات التنصيرية، وتأسيس المدارس الأجنبية، وإنشاء المراكز الثقافية -المركز الثقافي الفرنسي، المركز الثقافي الإنجليزي، المركز الثقافي الأمريكي..-،و إحداث أحزابا علمانية ووسائل إعلام، ناهيك عن التدخل السافر في برامج التعليم ومناهجه، وضغوطات الصندوق الدولي واستغلاله الفاحش للتدهور الاقتصادي لكثير من الدول الإسلامية.. إلى غيرها من الوسائل التي تفاوتت قوة شراستها في العمل على جعل الإسلام الصحيح غريبا بين أهله. ومن ثم فلا يتم نجاح كامل لأي عملية إصلاح تجود بها الأمة الإسلامية لتصحيح ما أفسده المستعمر الغادر، حتى يتم إصلاح المفاهيم أولا، وذلك بتحرير دلالة الألفاظ وضبط معانيها الاصطلاحية وفق الوضع العربي القرآني. فالنفس البشرية إذا ما أشربت فعل الشرّ واستلذَّته، فلا يمكنها هجره إلا بتغيير نظامها الفكري؛ “إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ” الرعد، وحين تصحح المفاهيم، تتميز المذاهب، وتصنف أخلاط الأفكار، وتمحص الصفوف؛ وعندئذ يظهر الحق صافيا، ويبدو الإسلام جليا للعيان من غير التباس أو غموض، فتتحقق له وقتها -إن شاء الله- جولة جديدة. وبعد ذلك يفرح المؤمنون بتمكين الله.