الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الإمام العلامة جمال الدين أبا زكريا، يحيى بن يوسف بن يحيى الأنصاري، المعروف بالصرصري (المتوفى سنة 656هـ) من أهل صرصر (وهي قرية على مقربة من بغداد) كان أديبا وشاعرا مفلقا، جعل شعره منبرا لنصرة دين الله والذب عنه، والحث على الآداب والأخلاق الفاضلة، ومدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وجعله وسيلة لتقريب الفقه وتيسيره. وكتب التراجم حافلة بشهادة العلماء له برسوخ قدمه في الشعر، وقوة تمكنه منه، وشدة نصرته للسنة وأهلها، حتى لقبوه: حسَّانَ السُّنَّة؛ قال عنه ابن القيم: “حسَّان السنة في وقته، المتفق على قبوله، الذي سار شِعرُه مسيرة الشمس في الآفاق، واتفق على قبوله الخاص والعام أيَّ اتفاق، ولم يزل ينشد في المجامع العظام، ولا ينكر عليه أحد من أهل الإسلام”.
وقال ابن كثير: “يُشَبَّه في عصره بحسان بن ثابت رضي الله عنه.. وقد كان ضرير البصر، بصير البصيرة”.
وقال: “كان ينظم على البديهة سريعا أشياء حسنة فصيحة بليغة”.
وقال ابن رجب: “شاعر العصر، وصاحب الديوان السائر في الناس في مدح النبي صلى الله عليه وسلم، كان حسَّان وقته”.
وقال اليافعي: “كان إليه المنتهى في معرفة اللغة وحسن الشعر”.
وقال ابن تغري بردي: “كان له اليد الطولى في النظم، وشعره في غاية الجودة”.
وقال الصفدي: “وشعره طبقة عالية، وكان فصيحا بليغا، شعره يدخل في ثمان مجلدات، وكله جيد”.
وهذه نماذج منتقاة من شعره رحمه الله:
شعره في العقيدة والتوحيد ونصرة السنة
يقول واصفا ربه سبحانه، منَزِّها له عن الشبيه:
سَمِيعٌ بَصِيرٌ مَا لَهُ فِي صِفَاتِهِ شَبِيهٌ يَرَى مِنْ فَوْقِ سَبْعٍ وَيَسْمَعُ
قَضَى خَلْقَهُ ثُمَّ اسْتَوَى فَوْقَ عَرْشِهِ وَمِنْ عِلْمِهِ لَمْ يَخْلُ فِي الأَرْضِ مَوْضِعُ
وقال أيضا:
نُقِرُّ بِأَنَّ اللهَ جَلَّ جَلاَلُهُ *** سَمِيعٌ لأَقْوَالِ العِبَادِ بَصِيرُ
وَيَطْوِي السَّمَوَاتِ العُلَى بِيَمِينِهِ *** وَذَلِكَ فِي وَصْفِ القَوِيِّ يَسِيرُ
ويقول مبينا أن سبيل النجاة في ترك البدع ونبذها، والتمسك بالسنن واتباعها:
فَإِنِ ابْتَغَيْتَ إِلَى النَّجَاةِ وَسِيلَةً *** فَاقْبَلْ مَقَالَةَ نَاصِحٍ يَتَقَلَّدُ
إِيَّاكَ وَالبِدَعَ الْمُضِلَّةَ إِنَّهَا *** هَدْيٌ إِلَى نَارِ الْجَحِيمِ وَتُورِدُ
وَعَلَيْكَ بِالسُّنَنِ الْمُنِيرَةِ فَاقْفُهَا *** فَهِيَ الْمَحَجَّةُ وَالطَّرِيقُ الأَقْصَدُ
شعره في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم
وهو الذي شغل الجانب الأوفر من شعره، حتى لُقِّبَ بالْمَدَّاح، ونُعِتَ بذي المحبة الصادقة.
قال ابن كثير: “وأما مدائحه في رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقال إنها تبلغ عشرين مجلدا، وما اشتهر عنه أنه مدح أحدا من المخلوقين من بني آدم إلا الأنبياء”.
وقال الصفدي: “لا أعلم شاعرا أَكْثَرَ مِن مَدَائِح النبي صلى الله عليه وسلم أَشْعَرَ منه”.
فقصائده في هذا الباب لا تدخل تحت الحصر كثرة، وقيل: إن مدائحه في النبي صلى الله عليه وسلم تقارب عشرين مجلدا، من ذلك قوله:
أَوَجْهُكَ أَمْ ضَوْءُ الصَّبَاحِ تَبَلَّجَا *** أَمِ البَدْرُ فِي بُرْجِ الكَمَالِ جَلاَ الدُّجَى
أَمِ الشَّمْسُ يَوْمَ الصَّحْوِ فِي بُرْجِ سَعْدِهَا *** وَفَرْعُكَ أَمْ لَيْلُ الْمُحِبِّ إِذَا سَجَا
أَتَتْكَ جُنُودُ الْحُسْنِ طَوْعاً بِأَسْرِهَا *** فَصِرْتَ مَلِيكاً فِي الْجَمَالِ مُتَوَّجَا
فَطُوبَى لِعَبْدٍ أَنْتَ سَيِّدُهُ لَقَدْ *** سَمَا بَيْنَ أَرْبَابِ البَصَائِرِ وَالْحِجَى
وقال:
مُحَمَّدٌ الْمَبْعُوثُ لِلنَّاسِ رَحْمَةً *** وَسِيُّدُنَا أَوْهَى الضَّلاَلَةِ مُصْلِحُ
وقال:
مَنْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ إنْ ذُكِرَ اسْمُهُ *** فَهُوَ الْبَخِيلُ وَزِدْهُ وَصْفَ جَبَانِ
وَإِذَا الْفَتَى فِي الْعُمْرِ صَلَّى مَرَّةً *** فِي سَائِرِ الْأَقْطَارِ وَالْبُلْدَانِ
صَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ عَشْرًا فَلْيَزِدْ *** عَبْدٌ وَلَا يَجْنَحْ إلَى نُقْصَانِ
والناظر في هذا اللون من شعر الصرصري يجد منه نزعة صوفية تظهر آثارها في تلك المدائح التي لا تخلو من غلو مذموم يصل إلى حد الاستغاثة والاستعاذة بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلب الدعاء منه، من ذلك:
أَنْتَ جَارِي وَعُدَّتِي وَنَصِيرِي *** وَعِمَادِي فِي شِدَّتِي وَرَخَائِي
ولهذا قال ابن تيمية في فتاويه: “أنكرنا على الشيخ يحيى الصرصري ما يقوله في قصائده في مدح الرسول من الاستغاثة به مثل قوله: بك أستغيث، وأستعين، وأستنجد، ونحو ذلك”.
شعره في الزهد والأخلاق والآداب
جعل الإمام الصرصري شعره رسالة لتبليغ الأخلاق الفاضلة، والشيم الحميدة، فهو يَحُث على الزهد في الدنيا، والإقبال على الآخرة، والتوبة إلى الله والالتجاء إليه، ويدعو النفس إلى أن تتحلى بجميل الأخلاق ونبيلها، وأن تتخلى سفسافها ورذيلها. ومن أبياتها السائرة:
أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي كَسَبَ الذُّنُوبَا *** وَصَدَّتْهُ الأَمَانِي أَنْ يَتُوبَا
أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي أَضْحَى حَزِينًا *** عَلَى زَلاَّتِهِ قَلِقًا كَئِيبَا
أَنَا الْعَبْدُ الَّذِي سُطِرَتْ عَلَيْهِ *** صَحَائِفُ لَمْ يَخَفْ فِيهَا الرَّقِيبَا
ويقول:
دَعِ الدُّنْيَا لِطَالِبِهَا لِتَسْلَمَ مِنْ مَعَاطِبِهَا
وَلاَ يَغْرُرْك عَاجِلُهَا وَفَكِّرْ فِي عَوَاقِبِهَا
فَإِنَّ سِهَامَ آفَتِهَا مَشُوبٌ فِي أَطَايِبِهَا
وَإِنَّ بَرِيقَ دِرْهَمِهَا لأَفْتَكُ مِنْ عَقَارِبِهَا
ويقول:
كَثُرَ الرِّبَا وَفَشَا الزِّنَا وَنَمَا الْخَنَا *** وَرَمَى الْهَوَى فِيهِ فَأَقْصَدَ سَهْمُهُ
ذَهَبَ النَّصِيحُ لِرَبِّهِ وَنَبِيِّهِ *** وَإِمَامِهِ نُصْحًا تَحَقَّقَ عَزْمُهُ
لَمْ يَبْقَ إلاَّ عَالِمٌ هُوَ مُرْتَشٍ *** أَوْ حَاكِمٌ تَخْشَى الرَّعِيَّةُ ظُلْمَهُ
وَالصَّالِحُونَ عَلَى الذَّهَابِ تَتَابَعُوا *** فَكَأَنَّهُمْ عِقْدٌ تَنَاثَرَ نَظْمُهُ
لَمْ يَبْقَ إلاَّ رَاغِبٌ هُوَ مُظْهِرٌ *** لِلزُّهْدِ وَالدُّنْيَا الدَّنِيَّةُ هَمُّهُ
لَوْلاَ بَقَايَا سُنَّةٍ وَرِجَالُهَا *** لَمْ يَبْقَ نَهْجٌ وَاضِحٌ نَأْتَمُّهُ
ويقول محذرا من قسوة القلب، حاثا على محاسبة النفس:
يَا قَسْوَةَ الْقَلْبِ مَا لِي حِيلَةٌ فِيكِ *** مَلَكْتِ قَلْبِي فَأَضْحَى شَرَّ مَمْلُوكِ
حَجَبْتِ عَنِّي إفَادَاتِ الْخُشُوعِ فَلاَ *** يَشْفِيك ذِكْرٌ وَلاَ وَعْظٌ يُدَاوِيك
يَا نَفْسُ تُوبِي إلَى الرَّحْمَنِ مُخْلِصَةً *** ثُمَّ اسْتَقِيمِي عَلَى عَزْمٍ يُنَجِّيكِ
وَاسْتَدْرِكِي فَارِطَ الأَوْقَاتِ وَاجْتَهِدِي *** عَسَاك بِالصِّدْقِ أَنْ تُمْحَى مَسَاوِيك
ويقول في الحث على العلم والحرص على التزود منه، والتقلل من الدنيا، وضرورة التحلي بالجد ولين الكلام ومجانبة المزاح:
اُطْلُبْ نَفِيسَ الْعِلْمِ تَسْتَأْنِسْ بِهِ *** فَالْعِلْمُ لِلطُّلَّابِ خَيْرُ مُؤَانِس
لاَ تُكْثِرَنَّ الْخَوْضَ فِي الدُّنْيَا وَكُنْ *** فِي الْعِلْمِ أَحْرَصَ مُسْتَفِيدٍ قَابِسِ
وَإِذَا شَهِدْت مَعَ الْجَمَاعَةِ مَجْلِسًا *** يَوْمًا فَكُنْ لِلْقَوْمِ خَيْرَ مُجَالِسِ
أَلِنِ الْكَلاَمَ لَهُمْ وَصُنْ أَسْرَارَهُمْ *** وَذَرِ الْمِزَاحَ وَلاَ تَكُنْ بِالْعَابِسِ
ويقول حاثا على تدبر كتاب الله تعالى، ومراعاة أحكامه وحدوده، والتحلي بأخلاقه وفضائله:
تَدَبَّرْ كِتَابَ اللَّهِ يَنْفَعْك وَعْظُهُ *** فَإِنَّ كِتَابَ اللَّهِ أَبْلَغُ وَاعِظِ
وَبِالْعَيْنِ ثُمَّ الْقَلْبِ لاَحِظْهُ وَاعْتَبِرْ *** مَعَانِيَهُ فَهْوَ الْهُدَى لِلْمُلاَحِظِ
وَأَنْتَ إذَا أَتْقَنْت حِفْظَ حُرُوفِهِ *** فَكُنْ لِحُدُودِ اللَّهِ أَقْوَمَ حَافِظِ
وَيُعْرَفُ أَهْلُوهُ بِإِحْيَاءِ لَيْلِهِمْ *** وَصَوْمِ هَجِيرٍ لاَعِجِ الْحَرِّ قَائِظِ
وَغَضِّهِمُ الأَبْصَارَ عَنْ مَأْثَمٍ *** يَجُرُّ بِتَحْرِيرِ الْعُيُونِ اللَّوَاحِظِ
وَكَظْمِهِمُو لِلْغَيْظِ عِنْدَ اسْتِعَارِهِ *** إذَا عَزَّ بَيْنَ النَّاسِ كَظْمُ الْمُغَايِظِ
شعره التعليمي
إن المنظومات والقصائد العلمية تحظى بمكانة هامة لاستيعابها مسائل العلوم وضبط حدودها وأبوابها وتيسرها على الطلاب، ولأن الكلام المنظوم يفوق نظيره المنثور بسهولة الحفظ والاستذكار.
فمن قصائد الصرصري التعليمية قصيدته المسماة: “الدرة اليتيمة والمحجة المستقيمة”، وهي في الفقه على مذهب الإمام أحمد، نظم فيها مختصر الخرقي يقول في أولها:
بِحَمدكَ يَا رَبَّ البَريَّة أَبتَدِي فَحَمْدُك فرضٌ لاَزِمٌ لِلْمُوَحِّدِ
وله أيضا نظم على الكافي الذي ألفه موفق الدين بن قدامة.
شعره في هجاء المبتدعة والمخالفين لمنهج أهل السنة
قال ابن رجب: “وكان شديدا في السنة، منحرفا على المخالفين لها، وشعره مملوء بذكر أصول السنة ومدح أهلها وذم مخالفيها”. [ذيل طبقات الحنابلة (2/263)].
فقد كان معروفا بنصرته للسنة والرد على مخالفيها من الجهمية والمعتزلة وغيرهم. وهو في ذلك يسير على درب حسَّان رضي الله عنه الذي كان يهجو أعداء الله وأعداء رسوله صلى الله عليه وسلم ممتثلا قوله عليه الصلاة والسلام: “اهجهم وروح القدس معك”.
يقول رادًّا على ابن خنفر الجهمي:
وَأَشَدُّهُمْ كُفْراً جَهُولٌ يَدَّعِي *** عِلْمَ الأُصُولِ وَفَاسِقٌ مُتَزَهِّدُ
فَهُمُو وَإِنْ وَهَنُوا أَشَدُّ مَضَرَّةً *** فِي الدِّينِ مِنْ فَأْرِ السَّفِينِ وَأَفْسَدُ
كَالْخَائِضِ الرَّمْضَاءِ أَقْلَقَهُ اللَّظَى *** مِنْهَا فَفَرَّ إِلَى جَحِيمٍ يُوقَدُ
وقال ردًّا على الجهمية:
تَشُنُّ عَلَيْهِمْ غَيْرَتِي وَحَمِيَّتِي *** لِدِينِ الْهُدَى غَارَاتِ أَشْوَسَ مُقْبِلِ
فَوَقْعُ قَرِيضِي فِي صَمِيمِ قُلُوبِهِمْ *** أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ سِنَانٍ وَمُنْصُلِ
فهذه نبذة يسيرة عن شعر الصرصري رحمه الله، وقد طبع ديوانه بتحقيق الدكتور مخيمر صالح، وطبع كتابه الدرة اليتيمة بتحقيق جاسم الدوسري، ومن كتبه المخطوطة: المختار من مدائح المختار، والوصية الصرصرية. ذكرهما الزركلي في الأعلام.