شرح المشكل من شعر المتنبي

رَمَاني خِسَاسُ النَّاس مِنْ صَائِب اسْتِهِ وآخر قطنٌ من يديه الْجَنَادِلُ
يذهب إلى أن عدوه ضدٌ له. هُو جَمُّ الفضائل، وعدوه جَمُّ النقائص والرذائل، ولذلك وقع بينهما التنافر، لأن النّد مُحارب لضده، والشكل مُسالُم لِشَكله فهو يقول: لايعاديني إلا ناقصٌ لجرى العادة بمعاداة ذى النقص لذى الفضل، فإذا عاَبنَى -والإجماعُ قد وقع على فَضلى- فهو لا محالة ناقص وقد صرح عن ذلك بقوله في الأخرى:
وإذا أتتكَ مَذَمَّتى من ناقٍص … فهي الشهادةُ لي بأنى كَاملُ
أي أنه لو كان فاضلا مِثلي، ما ذَمنَّي لِتَشَاكلُنا في الفضل، ولأنه لو كان فاضلاً لنَقَص وفَضَلت. فأوجب ذلك تَضَاداً وتعادياً كقول أبى تمام:
لقد آسفَ الأعداءَ مجدُ ابن يوسُفٍ … وذو النقص في الدنيا بذى الفضل مُولعُ
وقوله: )مِن صائب استِهِ، وآخر قُطن) أراد من بين صائب يرميه وآخر هذه صفته، أي أنه ضعيف يُعدِى ضعفُه الجَنْدل فيضعف، حتى لايُؤثِّر كما لا يؤثر القطن إذا رُمِىَ به.
وصائب استه: أي مُصيبها. يقال: صاب الشيء وأصابه.
وخص ذكر استه من بين سائر الأعضاء لوجهين: أحدهما: قصدُ الاستخفاف به في ذكر ذلك منه، والآخر أن هذا الناقص المتنقِّص لي مغلوب مهزوم. والمهزوم لا يقع سلاحه إلا على ما يلي ظهره، فخص هذا العضو للأمرين جميعاً.
والأجودُ عندى أنه إنما قصد الاستخفاف، والشّتْم، والسَّب بذلك كثير. ولذلك سميت الاست السَّبَّو والسَّبَ.
وأصل الناس: الأناس، حذفوا الهمزة لكثرة استعمالهم إياه، وذلك مع اللام، وقد جاء محذوفاً ولا لام فيها، كما جاءت الهمزة فيه مع اللام فيما أنشده أبو عثمان من قول الشاعر: إنَّ المنَايا يَطَّلِعْن على الأناس الآمنينا ولما ذكر سيبويه إسم الله تعالى، وكون الألف واللام فيه خَلفاً من الهمزة قال: ومثل ذلك. أناس: فإذا أدخلت الألف واللام قلت الناس. إلا أن الناس قد تفارقهُ: الألف واللام ويكون نكرة. والله تعالى لا يكون فيه ذلك، وهو فصل معروف في باب ما ينتصب على المدح والتعظيم والشيم في باب النداء.
وقوله:) وآخَرَ قُطن) الجدي في قُطن الرفعُ، لأنه جوهرٌ والجواهر لا يوصف به. إلا أن الجر في مثل هذا قد يَسُوغ، وذلك على توهُّم الصفة، يُقدر الجوهر صفة بقدر ما يحتمله وضعه، نحو ما حكاه سيبويه عن العرب من قولهم: مَررتُ بسرجٍ خَزٍّ صُفّتُه، لأن الخز وإن كان جوهراً فهو في معنى لَيِّن، صفة قال: الفارسي: كأنهم يقولون: (مررت بقاع عَرْفَج كله). فيجعلونه كأنه وصف. قال الفارسيّ: كأنهم يقولون: مررت بقاع خشنٍ كله. وإنما قَدَّره بخَشِن، لأن العَرفج شائك، والشوكُ خَشِنُ المس. فإذا جَرَّ فقال: (وآخر قُطنٍ من يديه الجنادل) فكأنه قال: وآخر لين أو ضعيف من يديه الجنادل.
وصايا الملوك
قال علي بن محمد: قال الدعبل بن علي: فيقال إن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب ساس الملك بعد أبيه سياسة حمده فيها أهل زمانه، وكذلك ابنه عبد شمس بن وائل بن الغوث بن قطن بن عريب حين ولي الملك بعد أبيه وائل بن الغوث، وسار بالناس بسيرة أبيه، وأجراهم على سنن أجداده وأسلافه. وعبد شمس بن وائل هو جد بلقيس بن الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو، واسم عمرو معاوية بن المعترف، واسم المعترف علاق بن شدد بن القطاط بن عمرو، وعمرو دوانس بن عبد شمس، فما من هؤلاء القوم المسمين أحد إلا وقد ملك ما ملك عبد شمس وآباؤه من قبله. وأخبارهم تطول عند الشرح.
ثم انتقل الملك من هؤلاء القوم إلى حمير الأصغر وهو زرعة بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن فلس بن معاوية بن جشم بن عبد شمس بن وائل بن الغوث. وأخو زرعة سبأ الأصغر بن كعب بن زيد بن سهل بن عمرو بن فلس وكان حسن السيرة في الناس حين ولي الملك، وكذلك كان ابنه شدد بن زرعة.
وحدّثني علي بن محمد، عن جده الدعبل بن علي، أن زرعة بن كعب بن زيد بن سهل وصى ابنه شداد، فقال: يا بني، لو أن ملكاً يستغني بثاقب رأيه دون رأي الناس لفضل عقله وكمال معرفته وبارع أدبه وفطنته وعلمه بما تقدم من التجارب لأسلافه مع ما حفظه ورواه وأحاط به من سنن الأوائل من الآباء والملوك من قومه وسنن الماضين من الأجداد من أغنى الملوك عن مشاركة أهل الآراء ومشاورة الأقيال، ووصية الموصين، إلا أنه لا بد للملك من يعينه في الرأي والأمر والنهي، ولا بد له من مشير يحمل عنه بعض ما يثقله من ذلك. ولا بد للولد من وصية الوالد، قلَّت الوصية أم كثرت.
ثم أنشأ يقول: “من البسيط”
جرَّبت قَبلكَ أسباباً عَمِلتُ بها … في المُلكِ بيني وبينَ النَّاس يا شددُ
فلمْ أجِدْ نجدةً في المُلكِ تكلؤهُ … مثلَ النَّوالِ إذا ما قلَّتِ العُددُ
ولمْ أجِدْ طاعةً كالعدلِ إن نزعتْ … عن طاعةٍ لمليكٍ في الأنامِ يدُ
والناسُ كالوحشِ إن دارأتم شرعوا … وإن دنيت لهم عافُوا وما وَرَدُوا
متى أطاعكَ ساداتُ العشيرةِ لا … يعصيكَ في الناسِ فاعلم بعدها أَحَدُ
دارِ الورى وذوي القُربى وجُدْ لهمُ … بالخيرِ إنَّكَ مطلوبٌ بما تَجِدُ
أمثال العرب
– إني آكل لحمي ولا أدعه لآكل.
– لا يملك مولى لمولى نصرا.
زعموا أن العيار بن عبد الله الضبي ثم أحد بني السيد بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة وفد هو وحبيش بن دلف وضرار بن عمرو الضبيّان على النعمان فأكرمهم وأجرى عليهم نزلا، وكان العيار رجلا بطالا يقول الشعر ويضحك الملوك، وكان قد قال قبل ذلك:
لا أذبح النازي الشبوب ولا … أسلخ يوم المقامة العنقا
لا آكل الغثّ في الشتاء ولا … انصح ثوبي إذا هو انخرقا
ولا أرى أخدم النساء ول … كن فارسا مرة ومنتطقا
وكان منزلهم واحدا، وكان النعمان باديا، فأرسل إليهم بجزر فيهن تيس، فأكلوهن غير التيس، فقال ضرار للعيار- وهو أحدثهم سنا- ليس عندنا من يسلخ لنا هذا التيس فلو ذبحته وسلخته وكفيتنا ذلك، فقال العيار فما أبالي أن أفعل، فذبح ذلك التيس ثم سلخه، فانطلق ضرار إلى النعمان فقال:
أبيت اللعن هل لك في العيار يسلخ تيسا؟
قال: أبعد ما قال؟ قال: نعم، فأرسل إليه النعمان فوجده يسلخ تيسا، فأتى به فضحك به ساعة؛ وعرف العيار أن ضرارا هو الذي أخبر النعمان بما صنع، وكان النعمان يجلس بالهاجرة في ظل سرادقه، وكان كسا ضرارا حلة من حلله، وكان ضرار شيخا أعرج بادنا كثير اللحم، فسكت العيار حتى إذا كانت ساعة النعمان التي يجلس فيها في ظلّ سرادقه ويؤتي بطعامه عمد العيار إلى حلّة ضرار فلبسها، ثم خرج يتعارج، حتى إذا كان بحيال النعمان وعليه حلّة ضرار كشفها عنه “وقضا حاجته”، فقال النعمان: ما لضرارا قاتله الله لا يهابني عند طعامي؟ فغضب على ضرار، فحلف ضرار أنه ما فعل، قال ولكني أرى العيار هو فعل هذا من أجل أني ذكرت لك سلخه التيس، فوقع بينهما كلام حتى تشاتما عند النعمان.
فلما كان بعد ذلك ووقع بين ضرار وبين أبي مرحب أخي بني يربوع ما وقع تناول أبو مرحب ضرارا عند النعمان، والعيار شاهد، فشتم العيار أبا مرحب ورجز به فقال النعمان للعيار: أتشتم أبا مرحب في ضرار، وقد سمعتك تقول له شرا مما قال أبو مرحب؟! قال العيار أبيت اللعن وأسعدك إلهك: إني آكل لحمي ولا أدعه لآكل فأرسلها مثلا، فقال النعمان: لا يملك مولى لمولى نصرا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *