أقصوصة: اغتيال أبي.. ذ. إبراهيم أنفلوس

كانت الصورة عالقة بذهني، أتذكرها جيدا وبكامل ملامحها كلما سمعت كلمة أبي، أو رأيت طفلا يصاحب والده. لا زلت أتمثل رجلا كثير المرح، يحب الدعابة والمزاح، بشوش الوجه، تكسر بشاشته تجاعيد مخطوطة في جبينه، مع أنه لم يبلغ بعدُ مبلغها، فسنه لم تتجاوز الخمسين، وأذكر أيضا أسنانه التي دب إليها الخراب وكاد أن يكتنفها السواد، وهي تطل من بين شفتين قد ازرقتا إلى حد الدكنة، أذكر أن والدي كان يحملني ويقبلني، وكلما لفظت بكلمة غرق في الضحك إلى أن يقطع ضحكه السعال الذي لا يفتأ يهجم عليه الفينة بعد الأخرى، ولا أنسى أيضا رائحة فمه التي لم تكن تختلف عن تلك الأدخنة التي أشمها في البيت، الحقيقة أنها كانت تخنقني ولا تعجبني، أذكر أن مناوشات تقع بين أبي وأمي، لا أفهم منها إلا الصراخ والغضب. كل ذلك لا يزال عالقا بذهني.
لم تكن السنوات لتتخلف عن مواعدها، فقد تقدمت شيئا قليلا، لأقترب من الحدث..
لم يلبث أبي أن غاب عن الأنظار، حتى إني لأكاد أنساه، بسبب انشغالي باللعب مع الأطفال، لكنني لا أنساه، فقد كانت تفاجئني صورته في ذهني، وخاصة حينما يعود الآباء إلى منازلهم، فيقبل كلٌّ ابنَه، فأحظى في الأخير بقبلاتهم، لكنها لا تعني لي شيئا مما تعني لهم، فيفرنقع جمعهم وأهرع إلى أمي في المطبخ لأسألها: متى سيعود أبي؟ كانت تجيب بكل عفوية وبساطة: قريبا. ثم ما يفتأ يظهر أياما ثم يعود للغياب، وأعود للسؤال مُلحا: أين أبي؟ أين يذهب؟ فتجيب بحزن: ذهب لقضاء بعض شواغله وسيعود قريبا. كنت أقرأ الحزن في وجهها لكنها تنصرف محاولة إخفاءه، كان جوابها لا يتغير كلما سألتها عنه، غير أن الذي يريبني من جوابها بكاؤها الذي يدهمها بعد الانصراف ليفضح القضية. كان بكاؤها يمنعني من إعادة السؤال، فأنا الطفل الذي يحب المرح واللعب، والفرح والسرور، وأكره الحزن والبكاء والغضب كسائر الأطفال، لكن باعث حب الاستطلاع الذي يصاحب الأطفال بدوره يلح من داخلي على إعادة السؤال والإصرار عليه حتى معرفة الحقيقة.
عرفت من بعض الأطفال أن كثيرا من الآباء يغيبون طول النهار، وأعرف كذلك منهم أن بعضهم يرحل أياما ثم يعود، أدرك أن الذي يجعلهم يرحلون عن بيوتهم هو العمل، تلك الكلمة التي تعلمتها إلى جانب كلمة أبي، علمتني إياها أمي لأقولها لمن جاء يسأل عن أبي بعد غيابه، لكن كثرة غيابه تجعلني مضطربا، غير مرتاح، بل وصلت في الأيام الأخيرة أن يراودني من خلالها شعور شيطاني بأن أبي لا يحبني، وأحيانا تبدأ تأويلات أخرى، ربما أبي لا يحب أمي لكثرة شجارهما، فأهرع لأسأل أمي عن ذلك فتغضب وتزبد وترعد، فأخاف وأنثني ثم أصمت..
أذكر أن والدتي كانت تكثر الخروج على غير عادتها، وعلى غير هيأتها، كانت تتركني عند جارتنا لألعب مع أبنائها، بينما كانت تحمل قفة، وتلبس جلبابها وتخمر رأسها ثم تخرج في ذهول. لم أكن حينها أعرف سبب خروجها، لكني بدأت أستشعر بركانا عاطفيا يوشك انفجاره من داخلي، خاصة وأنها ترجع وعيناها حمراوتان من البكاء، وتطاردها الدموع حتى بعد دخولها إلى البيت.
أذكر أنها ذات يوم تهيأت للخروج، وحضرت القفة، فأخذت بيدي نحو الجيران، فأملصت يدي من يدها هاربا نحو الخارج، والدموع تفيض من عيني: أريد أن أذهب معك، لا أريد أن أبقى عند الجيران، أريد أبي..
صرخت والدتي في وجهي، مهددة إياي بالضرب، محاولة أخذي، لكنني انفلت مرة أخرى مصمما على مرافقتها، احتارت الوالدة في أمرها، وبدا كأنها أحست أنها أثقلت على الجيران بكثرة تركي عندهم، حينها قررت أن تصاحبني، لم أكن أعرف إلى أين؟ المهم أنني كنت فرحا بالانتصار، تنتابني بسمة، تطرد الدموع الباقية في عيني.
وصلنا أمام مبنى ضخم، سيارات كثيرة أمام ساحته، نساء ورجال وأطفال، هنا وهناك، لا تكاد الحركة تهدأ في بابه، يبتلع أناسا، ويلفظ آخرين، وعين الحارس لا تبرح تراقب الغادي والرائح، لحظة بعد لحظة تسمع صوت سيارة الإسعاف تقتحم المكان، لتضع شخصا معطوبا.. وَلَجنا إلى الساحة الداخلية للمستشفى، مناطقه الخضراء ليست كما عهدتها ضاحكة، فشجره ووروده تظهر شاحبة غير راضية بالمكان، كئيبة تواسي مرضى المكان الذي يبدو موحشا على كثرة ناسه، كما يوحي بالرعب بضوضائه وضجيجه، تقدمنا قليلا في معابره، فهالتني أصوات البكاء، ونحيب النساء، وصراخ الأطفال، وأنات المرضى، هناك شممت رائحة الموت والجراح.. لم أتردد في محاولة نزع يدي من يد أمي باكيا مطالبا إياها بالرجوع، لكنها أسكتتني: اسكت.. أنت الذي طلبت مرافقتي، تعلم ألا تعود إلى طلبك مرة أخرى..
ليس المكان غريبا عني، فلي معه قصة كره أخرى، حينما كنت مريضا باللوزتين، وارتفعت درجة حرارتي، كانت والدتي تطمع أن يأخذني أبي في وقت فراغه، لكنه اعتذر في آخر لحظة فانتفضت عليه أمي بكلامها: أنت لا تعتني بولدك؟ لا يشكل لك شيئا؟ وكلام كثير، كنت مريضا لم أعبأ بشيء، ولا أهتم سوى بجسدي الذي أحس به يحترق، أخذتني أمي مكرها منهكا إلى المستشفى، كان الطابور طويلا، وتبعا له فإن الانتظار كذلك كان طويلا، كانت طلعة الطبيب في عيني مضببة، لكن وزرته البيضاء لم تفارق نظري إلى الآن، وأعرف الأطباء كذلك بشراستهم، منذ تلك اللحظة التي ضغط فيها الطبيب على بطني فصحت باكيا، تمعضت أمي، لكنها لم تستطع الإنكار فلا كلام مع الطبيب، أهوى بجهازه إلى إبطي، ثم استخرجه متأملا فيه، ثم صعّد نظراته المتكبرة المغضبة إلى أمي، فوبخها على تأخيرها إياي عن العلاج، كانت حرارتي مرتفعة حتى غازلت الأربعين درجة، كتب الطبيب تقريره الذي يفرض أن أبقى في المستشفى أياما إلى حين تحسن حالتي، كانت أمي برفقتي فيه.. تلك قصتي مع المستشفى.
في الطابق الثالث من المستشفى جناح مخصص لأصحاب الأمراض الصدرية، وصلنا إلى الغرفة رقم 56 فأشرفت أمي من النافذة، ولم تسعفني قامتي للقيام بذلك، وفي تلك اللحظة جرت أمي نحو ممرضة في فزع، أين الشخص الذي ينام في هذه الغرفة، لم تقف الممرضة، أجابت لكنها ببرودة وبساطة، فقد ألفت هذه المواقف: لقد تحول إلى جناح آخر. سألت أمي: أي جناح؟ ابحثي عنه فلست موكّلة بالمستشفى.
انطلقت أمي تسأل هنا وهناك بين معابر المستشفى، وهي مسرعة، لم أتحامل سرعتها، فقد كانت تجرني من يدي غير مبالية. إلى أن وصلت إلى جناح عرفت فيما بعد أنه مخصص بمرضى السرطان، هناك في بوابة الجناح، حبسها الحارس ليسألها: أين تقصد، أجابت: لزيارة زوجي: أحمد العراجي. أذن لها شرط أن تتركني خارجا، فعلت وبقيت أبكي قرب الحارس.
عدنا إلى البيت، وبعد أيام أسدل الحزن رداءه الأسود ليغمرنا، بعد مكالمة هاتفية تلقتها والدتي من أحد الإداريين بالمستشفى، استمعت الوالدة بكل حرص إلى كلامه، ثم قاطعت صارخة لا حول ولا قوة إلا بالله، ثم أعقب ذلك عويل وبكاء شديد أرعبني، ثم ماهي إلا لحظات حتى توافد الزوار والأخوال والأعمام على البيت، وعم الضجيج والحزن، الذي رافقني إلى هذا الحين.
ثم عرفت بعد أن تقدمت بي السن والتحقت بالابتدائية ما كان خافيا من قبل، عرفت أن الموت، ليس كما كنت أتصوره وحشا يفرق بين الناس، يأخذ منهم من يشاء، ويترك الحزن مخيما على المكان، لكنه قدر كتبه الله على بني آدم، لا يفلت منه أحد.
وكلما تقدمت في السن، بدأت أعرف بعض أسرار الصور التي لا تزال عالقة بذهني، وبدأت أدرك أجوبة الأسئلة التي كانت تنتابني، فالمشاجرة بين أبي وأمي إنما كانت بسبب تلك الأدخنة التي تملأ البيت، والتي عرفت أنها هي التي اغتالت أبي، وعرفت أيضا أن والدي كان مصابا بالربو الشيء الذي يجعله يغيب طويلا ثم يظهر أحيانا، لقد كان في المستشفى تحت العناية، وكانت أمي تذهب لتزوره، وتزوده بما يحتاج، ثم أدركت أن اليوم الذي عاش فيه بيتنا نوعا من الفوضى والضوضاء، ونساء ورجالا زائرين، ومنظر أمي وهي تجهش بالبكاء، أن ذلك اليوم يوم رحيل أبي، حينما أخبرها الطبيب أن السرطان قد فعل فعلته به..
ومما أذكره أنني لما التحقت بالإعدادية، كنت أرجع منها في السادسة مساء وقد حك الجوع أمعائي، فأنطلق إلى المطبخ غير آبه بربته، وأقطع كسرة من الخبز، وآخذ وعاء لأجعل فيه الزيت كعادتي، فتأتي أمي لتصرخ في وجهي: قلت لك: لا تستعمل هذا الوعاء مرة أخرى، سمعت؟ لأنبري مجيبا: إنها لأبي؟ وما يضر؟ فتقول: إنها طفاية الدخان، لا أستحمل حتى رؤيتها، فأخذتها والدتي بعنف، وألقت بها حتى تكسرت وألقتها مع النفايات.
عرفت فيما بعد أن الذي اغتال أبي كان سلاحا فتاكا، يشاركني في شفتي أبي التي كان يقبلني بهما كما يتناوله بهما، وكان لا يفارقه دوما، يجعله في جيبه جهة صدره، كأنه شيء أشرب حبه، كان يجعله أبي في فمه ويمصه بكل نشوة والتذاذ، بينما كان لا يشعر أنه يغرس طرفه الحاد في قلبه لينهي حياته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *