الإنشاء لغة: الشروع والإيجاد والوضع.
تقول أنشأ الغلام يمشي إذا شرع في المشي، وأنشأ الله العالم أوجده، وأنشأ فلان الحديث وضعه.
واصطلاحاً: علم يعرف به كيفية استنباط المعاني وتأليفها مع التعبير عنها بلفظ لائق بالمقام وهو مستمد من جميع العلوم، وذلك لأن الكاتب لا يستثنى صنفاً من الكتابة فيخوض في كل المباحث ويتعمد الإنشاء في كل المعارف البشرية.
وينحصر المقصود منه في ثلاثة أبواب وخاتمة وملحق.
أصول الإنشاء
وهي أربعة: مواده، وخواصه، وطبقاته، ومحاسنه.
أما مواده فثلاث: الأولى: الألفاظ الفصيحة الصريحة، الثانية: المعاني، الثالثة: إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة ومرجعها إلى الفصاحة وعلمي المعاني والبيان.
وأما خواصه فهي محاسنه السبعة وهي:
أولاً: الوضوح بأن يختار المفردات البينة الدلالة على المقصود وأن يعدل عن كثرة العوامل في المجلة الواحدة وإن يتحاشى عن الالتباس في استعمال الضمائر وأن يسبك الجمل سبكاً جلياً بدون تعقيد والتباس وأن يتحاشى عن كثرة الجمل الاعتراضية.
وثانياً: الصراحة بأن يكون الإنشاء سالماً من ضعف التأليف وغرابة التعبير، بحيث يكون الكلام حراً مهذباً تناسب ألفاظه للمعاني المقصودة كما قيل:
تـزينُ معـانيه ألفـاظهُ *** وألفاظه زائناتُ المعاني
ويكون الكلام صريحاً بانتقاء الألفاظ الفصيحة والمفردات الحرة الكريمة، وكذا بإصابة المعاني وتنقيح العبارات مع جودة مقاطع الكلام وحسن صوغه وتأليفه.
وكذا بمراعاة الفصل والوصل وهو العلم بمواضع العطف والاستئناف والاهتداء إلى كيفية إيقاع حروف العطف في مواقعها.
وثالثاً: الضبط وهو حذف فضول الكلام وإسقاط مشتركات الألفاظ كقول قيس بن الخطيم المتوفي سنة 612م.
أرى الموتَ لا يرعى على ذي قرابةٍ وإنْ كان في الدّنيا عزيزاً بمقعد
لعـــمرك مــا الأيـــــام إلاّ مــعـــارةٌ فما اسطعتَ من معروفها فتزوَّد
ورابعاً: الطبعية بأن يخلو الكلام من التكلف والتصنع، كما قال في رثاء ابنه أبو العتاهية المتوفي سنة 211هـ.
بكيتك يا بنــــي بدمـــع عيني *** فلـم يغن البـكاءُ عليـك شـيّا
وكانت في حياتك لي عظاتٌ *** وأنت اليوم أوعظُ منك حيّا
وذلك لأن من تطبع طبعه نزعته العادة حتى ترده إلى طبعه كما أن الماء إذا أسخنته وتركته عاد إلى طبعه من البرودة، وحينئذ الطبع أملك.
وخامساً: السهولة بأن يخلص الكلام من التعسف في السبك وأن يختار ما لان منها كما قال في الأشواق بهاء الدين زهير المتوفي سنة 656هـ.
شوقي إليكَ شديدٌ كما علمتَ وأزيدْ
فكيــفَ تنكرُ حبّــَا بهِ ضميرك يشهدْ
وأن تهذب الجمل وأن يأتلف اللفظ مع اللفظ مع مراعاة النظير كما قال الشاعر في الوداع.
فـي كنفِ الله ظــاعنٌ ظــعنا أودع قلبـــي وداعـه حــزنـا
لا أبصرتْ مقــلتي محاسنه *** إنْ كنتُ أبصرتُ بعده حسنا
وسادساً: الاتساق بأن تتناسب المعاني كقول المتنبي المتوفي سنة 356هـ.
ومازلتُ حتى قادني الشوقُ نحوه يسايرني في كلّ ركبٍ له ذكرُ
وأســتكــبرُ الأخبارَ قبــلَ لــقائــهِ فلمّا التقينا صغّرَ الخبرَ الخبرُ
وسابعاً: الجزالة وهي إبراز المعاني الشريفة في معارض من الألفاظ الأنيقة اللطيفة كقول الصابئ المتوفي سنة 384هـ.
لك في المحافل منطقٌ يشفي الجوى ويسوغُ في أذن الأديب سلافه
فكـــأنّ لفـــظـــكَ لـؤلؤٌ متــنـــــخّلٌ وكـــأنّما آذانـنـــا أصــدافــــهُ
وأما عيوبه فسبعة الهجنة بأن يكون اللفظ سخيفاً والمعنى مستقبحاً كقوله:
وإذا أدنيــــــتَ منهُ بصلاً *** غلبَ المسكَ على ريح البصل
والوحشية كون الكلام غليظاً تمجه الأسماع وتنفر منه الطباع كقوله:
وما أرضى لمقلتهِ بحلم إذا انتبهتَ توهَّمهُ ابتشاكا
والركاكة ضعف التأليف وسخافة العبارة كقول المتنبي المتوفي سنة 356هـ.
إنْ كان مثلك كان أو هو كائنٌ فبرئتُ حينئذٍ من الإسلام
والسهو عبارة عن ضعف البصر بمواقع الكلام كقول المتنبي يشبه ممدوحه بالله تعالى (وهو كفر).
تتقاصرُ الأفهامُ عن إدراكه مثل الذي الأفلاكُ منهُ والدُّني
والإسهاب الإطالة الزائدة المملة في شرح المادة والعدول إلى الحشو كقول الشاعر:
أعنى فتى لم تذرُّ الشَّمسُ طالعةٌ يوماً من الدّهر إلا ضرَّ أو نفعا
والجفاف الإيجاز والاختصار المخل كقول الحارث بن حلزة.
والعيشُ خيرٌ في ظلال النّوكِ *** ممَّن عاشَ كدّا
ووحدة السياق التزام أسلوب واحد من التعبير وطريقة واحدة من التركيب بحيث تكون للأذهان كلالا وللقلوب ملالاً.
وللكلام عيوب كثيرة منها اللحن ومخالفة القياس الصرفي وضعف التأليف والتعقيد والتكرار وتتابع الإضافات إلى غير ذلك من الأشياء التي تكون ثقيلة على اللسان مخالفة للذوق، غريبة على السمع.