خطر الفكر العاميّ على لغة الوحي (..ما ذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار…)

لا بأسَ بالعاميةِ في سُبلِها الضّيقةِ، بينَ النّاسِ معَ أهلِيهم وأصحابِهم، وفي أسواقِهم وأنديتهِم، ولا ضررَ مِنها -كَما يقولُ الأستاذُ د.مرزوق بن تنباك- لأنهّا ليستْ فِكرًا ولا هوى ولا مَوضعَ تَقديرٍ وإعجابٍ لديهم..(انظر: الفصحى ونظرية الفكر العامي، ص:113)

لكنّ البأسَ والشّناعةَ حِينَ تكونُ فكرًا يستعمرُ منابرَ الفُصحى -كَما يحدثُ الآنَ- ويطردُها مِن دروبِ التّعليمِ وسَاحاتِ الإعلامِ، ويخنقُ أنفاسَها وأنفاسَ أصحابِها.
وخطرُ الفكرِ العاميّ لا يحيطُ باللغةِ العربيةِ دُونَ أهلِها، بلْ هوَ مَصدرٌ قويٌّ لتمزيقهِم إلى أممٍ ودولٍ بعددِ لهجاتِهم وعامياتِهم، ونبذِهِم خارجَ أسوارِ قرآنِهم وسنتِهم، فيغدُو المصرُ الواحدُ مشتتًا مفتتًا..لا مكانَ لهُ في العالمِ السّياسيّ والصّناعيّ.. وصدقَ إمامُ العربيةِ مصطفى صادق الرافعي -رحمه الله تعالى- حين قالَ: (..فلن يتحول الشعب أول ما يتحول إلا من لغته، إذ يكون منشأ التحول من أفكاره وعواطفه وآماله..، وماذلت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطت إلا كان أمره في ذهاب وإدبار…) ( وحي القلم 3 / 22).
ويقولُ الأديبُ الكبيرُ عبد الله بن حمد الحقيل -رحمه الله تعالى- في ذلك: ولا يمكن لأي أمة أن تستكمل سلامة شخصيتها وقوتها بغير استقلال لغتها واستقامة تفكيرها ومنطقها.. (على مائدة الأدب ،ص 15).
ولنقرّبْ هذهِ الصورةَ الخطيرةَ.. فمثلا في المجالِ الاقتصاديّ.. لاحظَ (كولماس) في دراسةٍ له هبوط مستوى دخلِ الفردِ في البلاد التي تتعدد لغاتها مقارنةً بالبلاد التي يقل فيها هذا التعددُ (ففي بريطانيا التي يبلغ سكانها 57 مليون نسمة بلغ متوسط دخل الفرد سنة 1988م ما يقارب 12810 دولارا، بينما بلغ متوسط دخل الفرد في الفلبين ذات التسعة والخمسين مليونا من السكان الذين يتكلمون 164 لغة ما يقارب 630 دولارا.
أما اليابان التي بلغ عدد سكانها سنة 1988م ما يقارب 122 مليون نسمة والتي يتحدث السكان فيها خمس لغات فقد بلغ متوسط نصيب الفرد فيها من الناتج الإجمالي 21020 دولارا، بينما بلغ نصيب الفرد من الناتج الإجمالي القومي في إندونيسيا البالغ عدد سكانها 174 مليون نسمة يتحدثون 659 لغة 440 دولارا فقط…).
ثم ختم الباحث دراسته بقول “جوناثان بول”: (البلاد المجزأة لغويا بشكل كبير بلاد فقيرة أبدا) (انظر: اللغة العربية في عصر العولمة، د.أحمد الضبيب، ص 184).
فالانسجام اللغوي -كما يقول أ.د.أحمد الضبيب- من أهم الوسائل للنجاح الاقتصادي..( اللغة العربية في عصر العولمة ص 183ـ 184).
لذا جمعَ الأعداءُ أكبرَ كَيدهِم في ساحاتِ اللغةِ لعلمِهم أنّ التّعدديةَ اللُّغويةَ تضعفُ عقلَ الأمةِ وجسدَها، وتُزحزحُها عن دينِها وتفصلُها عن تراثِها، وتضعضعُ أركانَ حياتِها (الاجتماعيةِ والاقتصاديةِ والسّياسيةِ..).

العاميةٌ.. نقصٌ في العقل وتخلفٌ عن الابتكار والإبداع
يؤكد الأستاذ د.مرزوق بن تنباك أن: (الاهتمام بالفكر العامي مصدر تشتيت وإرباك للذهن وبلبة لن تنتهي عند حد لو ترك لمفكري العامية السير بفكرهم كما يريدون، فهم أولا: لن يجتمعوا على لهجة عامية واحدة، وهم ثانيا: لن يستطيعوا تنظيم اللهجة التي يريدون لها البقاء والاستمرار..) (الفصحى ونظرية الفكر العامي، ص 116).
إذن العاميةُ ستدحرجُ عقولَ الأمةِ، وتقلّبها في دركاتِ الجهلِ والتّخلفِ، وهي جسدٌ بلا روحٍ، يقول الأديبُ شوقي ضيف -رحمه الله تعالى-: (ومن المؤكد أن العامية على الرغم من طواعيتها لنا في الحديث كل الطواعية لا تحمل لنا علما ولا فكرا عميقا ولا نظريات سياسية أو اقتصادية، ولا تشريعات وقوانين، ولا دراسات سيكولوجية أو اجتماعية، ولا دينا وأعمالا روحية، إنها لهجة قلما تحمل لنا أعمالا وراء مطالب الحياة والفكر اليومي..) (محاضرات مجمعية، ص:259).
والعاميةُ لغةٌ إقليميةٌ لا يفهمُها إلا أصحابها، فحركةُ انتشارِها في المدينةِ الواحدةِ ضيقٌ محدودٌ، فهي ليستْ -كما يروّجُ لها- لغةً شعبيةً!

الغرب..يحارب من أجل لغاته
واعلمْ أنّ الأمريكيّ والرُّوسيّ والبريطاني وغيرَهم مِن سُكانِ العالمِ الصّناعي.. يأنفونَ أن يحدثوكَ بِغيرِ لُغاتِهم.. وفي إحدى الاجتماعاتِ الطّبية -كما يذكرُ ذلكَ الشّاعرُ د.عبد الرحمن العشماوي في زوايتهِ دفقُ قلمٍ- قدّمَ كلّ طبيب بحثه بلغته إلا الأطباء العرب قدموها بلغة أجنبية..
فتأملْ بشاعةَ هذا الموقفِ!!
طَاقةٌ من النماذجِ العجيبةِ يظهرُ فيها جلدُ الغرب في حِراسةِ لغاتِهم، وضعف فِيها إثارة النخوةِ الإسلاميةِ والغيرةِ الإيمانيةِ على لغتِنا العالميةِ التي مازلنا -بتبعيتنا وغبائنا- نعينُ أعداءنا على إماتَتِها.

أمريكا.. تصرخُ في وجهِ قريةٍ صَغيرةٍ
في ولاية تكساس قرية صغيرة عدد سكانها 7800 اختارت الأسبانية لغة لها، فثارت طبول طواحين الإعلام على مدينة (السنزو) الأمريكية، ورأوا الخطر المحدق بأمريكا، وعلى اللغة الأمريكية من هذه الظاهرة، وهي قرية صغيرة في ولاية تكساس، وبدأ العلماء والباحثون يدرسون خطر اللغة الأسبانية التي اتخذتها قرية السنزو على أمريكا، وعُدَّت القرية خطراً على لغة أمريكا القومية، وقورنت بما صنعت كيوبك في كندا التي تستعمل الفرنسية بالرغم من اتساع اللغة الإنجليزية وسيطرتها العالمية.
(نقلا عن مقالة يوسف عز الدين، مجلة الأدب الإسلامي، المجلد التاسع العدد السادس والثلاثون 1424 – 2003 م، موقع الألوكة الثقافي).

فرنسا ..لا للعامية
وفي فرنسا يكتب الأدباء بلغة المنطقة المحيطة بالعاصمة (باريس) المسماة (إيل دي فرانس) لا بلغاتهم المحلية التي هي عاميات متفرعة عن اللغة الفرنسية الأم.. ( انظر: السيف والعصا، د.عبد الله الرشيد، 30).
حتى لا نطيل فقد تعددت أشكال دفاع الغرب عن لغاتهم الفصحى، وتخاذل أبناء الضاد عن الدفاع عن لغتهم العالمية لغة الوحي، فلكِ الله يا لغة أهل الجنة؟! مقتبس من مقال: “معركة (داحس والغبراء) الفضائية!” لـ “حسين بن رشود العفنان”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *