نقف على مقدمة القصيدة الغريبة التي لم يعتد النقاد على مثلها، هذه المقدمة كانت في تصوير الفرزدق موقفاً لم يكن يريده -ولربما اصطنعه لأمر في نفسه- حينما فرض أحد الذئاب الجائعة نفسه عليه يريد التهامه أو مشاركته في الشواء الذي جذبته رائحته من بعيد، وساعد على ذلك نار الشواء في هذه البرية الصحراوية المظلمة.
وسواء كانت قصته مع الذئب حقيقية أم هي من بنات خياله فقد كانت رائعة ذات صور تقليدية، وذات صور مرسومة ممتدة.
الأبيات:
وَأطْــــلَسَ عَسّالٍ، وَما كانَ صَاحباً *** دَعَوْتُ بِنــَارِي مَوْهِــــناً فَأتَاني
فَلَمـــــّا دَنَا قُـــلتُ: ادْنُ دونَكَ، إنّني *** وَإيّــــاكَ في زَادِي لمُشْتـــَرِكَانِ
فَبِتُّ أسَـــوّي الزّادَ بَـــيْني وبَــــيْنَهُ *** على ضَوْءِ نَارٍ، مَـرّةً، وَدُخَـــانِ
فَقُلـــْتُ لَهُ لمـــّا تَكَشـــّرَ ضَــــاحِكاً *** وَقَــائِمُ سَيْـــفي مِنْ يَـــدِي بمَكَانِ
تَـــعَشّ فَإنْ وَاثَقْـــتَني لا تَخُـــونُني **** نَكُنْ مثلَ مَنْ يا ذئبُ يَصْطَحبانِ
وَأنتَ امرُؤٌ، يا ذِئبُ، وَالغَدْرُ كُنتُما *** أُخَيّيــْنِ، كَانَا أُرْضِعـــَا بِلِبــــَانِ
وَلـــَوْ غَيْرَنا نَبّــهَت تَلتَمِسُ القِرَى *** أتَـــاكَ بِســــَهْمٍ أوْ شَبَــــاةِ سِنَانِ
وَكُلُّ رَفيقَيْ كـلِّ رَحْـلٍ، وَإن هُمـا *** تَعاطَى القَنَا قَوْماهُمـــا، أخَــوَانِ
فالذئب: أطلس اللون (فيه غبرة إلى السواد) أتاه يعسل (يسرع بمشية مُطّربة) وهذه مشية الراغب في الحصول على شيء يريده متلهفاً إليه.
والفرزدق في آخر الليل وقد أشعل النار ليأنس في هذا الليل الهادئ البهيم ويرى ما حوله خشية أن ينقض عليه وحش أو هامة، وشغل نفسه بالشواء، أو بغيره، فالزاد يُطلق على ما يتزود به المسافر أيّاً كان.
ولم يكن الفرزدق يرغب في رؤية هذا الذئب الذي دعته النار ورائحة الطعام إليه، ولكنه بإشعال النار كانت الدعوة، وما كل من أوقد النار رغب بالضيف. والدليل على أنه لم يرغب فيه قولـُه: دعوتُ. ولم يقل: دعوته، دون النظر إلى وزن البيت، لكنه فوجئ به يعسل باتجاهه. لقد أجاب الذئب دعوته مسرعاً، وكان يودّ لو كان المجيب غزالاً أو حيواناً أليفاً يأنس كل منهما للآخر في هذه الفلاة القفر.
لقد كان الفرزدق خائفاً، ولو ادّعى الشجاعة والبطولة.
لقد كشف نفسه من حيث كان يريد أن يمتدحها لعوامل عدة، منها:
1- أنه قال للذئب: (ادنُ)، ولن يحتاج الذئب لسماح الفرزدق له بالدنوّ، ولكنّه إثبات للذات وسبيل للتحدي.
2- لقد قال له متحفزاً للدفاع عن نفسه بعد أن اقترب أكثر: (دونك) إياك أن تقترب أكثر من هذا.
3- اضطراره مشاركته في زاده، فهو ابتداء لم يدْعه، ولكنْ لا بد مما ليس منه بُدّ، فالذئب جائع وقد أسرع إليه ودنا منه يريد أن يأكل الشاعر.
4- قال: (في زادي) فالزاد للشاعر وهو في الظاهر يكرمه إلا أنه مضطر أن يشاركه فيه ولو كان زاده، وكان أولى أن يقول (في الزاد) بغض الطرف عن وزن البيت.
5- ثم قوله (إنني وإياك) وكان المختصر المفيد أن يقول (إننا).
6- التوكيد المتكرر في قوله (إنّ مع الضمير المتصل، ثم الضمير المتصل المنصوب: إياك، ثم اللام المزحلقة في: لمشتركان) حديث مستفيض يريد أن يملأ الوقت ويسمع الذئب صوته القوي فيبعده.. وكثيراً ما نرى الخائف في الليل أو في مكان موحش يكلم نفسه بصوت عال يواري به خوفه، ويسرّي عن نفسه.
7- وتصور معي الفرق بين (أقدّ الزاد) و(أقطّ الزاد) فالقدّ بالدال أقوى من القَطّ ويحتاج إلى عزم أشد وتلويح بالقوة أكبر.
8- ويستر خوفه بصوت (القدّ) يري الذئب -على ضوء النار تارة وضوء الدخان تارة أخرى- عملية الـ(القدّ) هذه (يعتمد على الصوت واللون) في إبعاد الذئب عن الوثب نحوه.
9- لا شك أن الحريص على حياته أمام الذئب يظل ممسكاً بقوة بمقبض سيفه، ولكن حينما تدعو أحدهم إلى طعامك، ويظل مكشراً يبغي المزيد أو الوثوب عليك تطرده وتمتنع عن الاستمرار بإطعامه.. أما أن تقول له بعد كل ما قدمتَه -غير عابئ بك- يضحك منك مكشراً (تعشّ) فهذا استجداء للأمان مغلف بالخوف والرغبة بالسلامة في أدنى صورها.
10- وبعد كل هذا يطلب إليه العهد بالأمان وعدم الخيانة (فإن عاهدتني لا تخونني).
11- كما أن الخوف ظاهر بوضوح في تكرار كلمة (يا ذئب). فكيف يطلب الصحبة والعهد من غدار؟ بل إن الذئب أُشرب الغدر فكان صفة ملازمة فيه! ومع ذلك فهو يريده أخاً وصفياً فالذئب عند الشاعر (امرؤ) وإنسان سوي يمكن معاهدته
وهذا يُظهر قصة الفرزدق مع ابنة عمه نوار وتأثره بغدرها فغلف غدرها بقصة الذئب.
ومن أحب أن يقارن بين الغدرين فليعد إلى قصيدة الشاعر فهي معاناة إنسانية تستحق الوقوف عندها على الرغم مما استنبطناه من موقفه والذئب.
مقال للدكتور عثمان قدري مكانسي بتصرف