عرف الأدب العربي رثاء المدن غرضًا أدبيا في شعره ونثره، وهو لون من التعبير يعكس طبيعة التقلبات السياسية التي تجتاح عصور الحكم في مراحل مختلفة.
وهذا النوع من الرثاء لا يقف عند حدود رثاء المدن وحدها حين يصيبها الدمار والتخريب ولكنه يتجاوز ذلك إلى رثاء الممالك تارة والعصور تارة أخرى، بل قد يرثي الدولة بأسرها؛ كما حدث ذلك في الأندلس، وقد تميز هذا الغرض من رثاء المدن في الشعر أكثر من تميزه في النثر.
ويُعد رثاء المدن من الأغراض الأدبية المحدثة، ذلك أن الجاهلي لم تكن له مدنٌ يبكي على خرابها، فهو ينتقل في الصحراء الواسعة من مكان إلى آخر، وإذا ألم بمدن المناذرة والغساسنة فهو إلمام عابر، ولعل بكاء الجاهلي على الربع الدارس والطلل الماحل هو لون من هذه العاطفة المعبّرة عن درس المكان وخرابه.
ولكن هذا اللون في المشرق لم يزدهر ازدهاره في الأندلس، ويعزى ذلك إلى أن طبيعة التقلبات السياسية في الأندلس كانت أشد حدة وأسرع إيقاعا، وأنها اتخذت شكل المواجهة بين النصارى والمسلمين حين تجمع الصليبيون عازمين على طرد المسلمين وإخراجهم من الأندلس.
كان هذا الغرض في الأندلس من أهم الأغراض الشعرية، إذ كان مواكبًا لحركة الإيقاع السياسي راصدًا لأحداثه مستبطنًا دواخله ومقومًا لاتجاهاته.
وكان محوره الأول يدور حول سلبيات المجتمع الأندلسي بسبب ما انغمس فيه الناس من حياة اللهو والترف والمجون وانصراف عن الجهاد، ومن هنا فالصوت الشعري لرثاء المدن في الأندلس يخالف الأصوات الشعرية الأندلسية الأخرى التي ألفها أهل الأندلس في الموشحات ووصف الطبيعة والغزل وبقية الأغراض الأخرى.
ويلفت النظر أن عددا من قصائد رثاء المدن في الأندلس لشعراء مجهولين؛ ويُفَسَّرُ ذلك إما بخشيتهم من السلطان القائم بسبب نقدهم للأوضاع السياسية وإما أن عنايتهم بالحس الجماعي واستثارته كانت أكثر من عنايتهم بذواتهم الشاعرة.
يقوم هذا الرثاء على مقارنة بين الماضي والحاضر؛ ماضي الإسلام في مجده وعزه، وحاضره في ذله وهوانه. فالمساجد غدت كنائس وبيعًا وصوت النواقيس أضحى يجلجل بدلا من الأذان، والفتيات المسلمات انتهكت أعراضهن، والدويلات المسلمة تستعين بالنصارى في تدعيم حكمها. وتمتلئ كل هذه النصوص بشعور ديني عميق يطفح بالحسرة والندم.
كان سقوط مدينة طليطلة في أواخر القرن الخامس الهجري بداية المأساة؛ فهي أول بلد إسلامي يدخله الفرنجة وكان ذلك مصابا جللا هزّ النفوس هزًا عميقًا. يقول شاعر مجهول يرثي طليطلة في قصيدة مطلعها:
لثُكلكِ كيف تبتسم الثغـور *** سرورًا بعدما سبيت ثغور
طليطلة أباح الكفر منــها *** حمــاها إنّ ذا نبـأ كبــــير
وفي هذه القصيدة التي بلغت سبعين بيتا تصوير لحال المسلمين عشية سقوطها وما أصابهم من ذل وصغار، كما تصور ماضيها المجيد وحاضرها المهين. وتنتهي بأمنية مشتهاة أن يخرج من أصلاب المسلمين بطلٌ كطارق بن زياد يعيد الأمر إلى نصابه:
ألم تك معـقلا للـدين صـعبا *** فــذ لّله كــما شــاء الــــقديـــر
وأخرج أهلها مـنـها جميـعا *** فصاروا حيث شاء بهم مصير
وكانت دار إيمــــــان وعلم *** مـــعالمها التي طمـــست تنير
مساجـدها كنائـس، أي قلب *** على هــذا يـــقــــر ولا يــطير
فيا أسفاه يـــا أسفاه حـــزنا *** يكــرر ما تـــكررت الدهــور
ثم تختم المرثية بهذه الأمنية:
إلاّ رجــل لــه رأي أصـــيل *** بـــه مِمــّا نحـــاذر نستـــجير
يكـر إذا السيـــوف تــناولته *** وأيــن بنــا إذا ولــت كــرور
ويطعن بالقنا الخطار حتـى *** يقول الرمح من هذا الخطير؟
وتعد مرثية الشاعر ابن الأبار لمدينة بلنسية من المراثي المشهورة في الأندلس، فقد أرسل بها على لسان أميره إلى أبي زكريا بن حفص سلطان تونس مستنجدا به لنصرة الأندلس ومطلعها:
أدرك بـــخــــيلك خــــيل الله أنـــــدلسا *** إن السبــــيل إلى منجـــاتـــهــا درســـا
وهب لها من عزيز النصر ما التمـست *** فلم يزل منــــك عــزّ النـــصر مـلتمسا
ويحكي هذا النص يأس أهل الأندلس من حكامهم المسلمين ومن ثم توجهوا لطلب النصرة من خارج الأندلس كما تصور حال بلنسية وقد تحولت المساجد إلى كنائس وفرض الكُفر سلطانه على الجزيرة وأن الذي أصاب بلنسية يوشك أن يصيب باقي المدن الأندلسية:
مدائن حلها الإشــراك مبتـــسما *** جذلان، وارتحل الإيمان مبتئسا
يا للمساجد عـــادت للعــدا بيـعا *** وللنــداء غــدا أثنـــاءها جــرسا
ثم يلتفت إلى أبي زكريا سلطان تونس قائلا:
طهّر بلادك مـنهم إنهـــــم نجس *** ولا طهارة مــا لم تغـسل النجسا
وأوطئ الفيلق الجرار أرضــهم *** حتى يطأطئ رأسا كل من رأسا
وأملأ هنــيئًا لك التــأييد ساحتها *** جرُدًا سـلاهب أو خـــطية دُعُسا
وأما مراثي الممالك فمن أشهرها مرثية أبي محمد، عبد المجيد بن عبدون التي رثى بها قتلى بني الأفطس أصحاب بطليوس ومطلعها:
الدهر يفجـــع بعـــد العين بالأثــر *** فما البكاء على الأشباح والصور؟
وفيها يقول:
أنهاك أنهـاك لا آلوك موعـــظة *** عن نومة بين ناب الليث والظفر
وفي هذه المرثية، يحشد ابن عبدون الكثير من أحداث التاريخ وتقلباته ويحكي ما أصاب الدول والممالك من مآسٍ ومحن متخذا من ذلك سبيلا للعظة والتأسي. وتمتاز القصيدة على طولها بحاسة شعرية قوية وعاطفة جياشة تزاوج بين مأساة بني الأفطس الذاتية والسياسية.
ومن أهم المراثي التي ربطت بين المأساة الذاتية والسياسية قصيدة أبي بكر بن عبد الصمد في رثاء مملكة إشبيليا وأميرها الشاعر المعتمد بن عباد:
لما خلت منك القصور ولم تكن *** فـيها كمـا قد كــــنت في الأعياد
قد كنت أحسب أن تبدد أدمـعي *** نيران حـزن أضرمت بـــفؤادي
وتعد أيضا دالية ابن اللبانة في رثاء بني عبَّاد ومملكتهم من تلك المراثي التي ربطت بين مأساة المعتمد وضياع ملكه ومأساة الشاعر حين هوى عن عرش الشعر ومملكته:
تبكي الســماء بــدمع رائـح غــاد *** على البـــهاليل مــن أبنــاء عبـَّاد
على الجبال التي هُدّت قواعـدها *** وكانت الأرض منهـم ذات أوتاد
نسيت إلا غداة النـــهر كـــونهم *** في المنــشآت كأمــوات بألحــاد
تفرقوا جـــيرة من بعد ما نشأوا *** أهــلا بـــأهــل وأولادًا بـــأولاد
وأما نونية أبي البقاء الرندي فهي واسطة العقد في شعر رثاء المدن وأكثر نصوصه شهرة وأشدها تعبيرا عن الواقع. فهي ترثي الأندلس في مجموعها مدنا وممالك، فتصور ما حلّ بالأندلس من خطوب جليلة لا عزاء فيها ولا تأسٍ دونها وكيف ضاعت قرطبة دار العلوم، وإشبيليا مهد الفن، وحمص مهبط الجمال، وكيف سقطت أركان الأندلس واحدة تلو الأخرى، وكيف أَقفرت الديار من الإسلام فصارت المساجد كنائس وغدا صوت الأذان صوت ناقوس؟! ثم يهيب أبو البقاء الرندي بفرسان المسلمين عبر عدوة البحر إلى المسارعة لنجدة الأندلس والمسلمين. يقول في أول القصيدة:
لكل شيء إذا ما تم نقصـــــان *** فلا يُغَرُّ بطيــب العيش إنسان
هي الأمور كما شاهدتها دول *** من سره زمن ســـاءته أزمان
وللحوادث ســـلوان يسهـــلها *** وما لما حلّ بالإســـلام سلوان
إلى أن يقول:
فاســـــأل بلنســية ما شأن مـــــرسية *** وأين شــــــاطبة أم أيــــــن جـــــيَّان؟
وأين قرطــبة دار العلــــــوم، فـــــكم *** مـــن عـــالم قــد ســــما فيها له شان
وأيــن حمـص وما تحويه مــــن نـزه *** ونهرها الـــعذبُ فيــــــاض ومـــلآن
قواعــد كن أركـــان الـــبـــلاد فـمـــا *** عســـــــــى الـــبقاء إذا لم تبق أركان
حيث المساجد قد صـارت كنائـس ما *** فيهــــن إلا نواقيـــــس وصـــلبـــــان
حتى المحاريب تبـــكي وهي جـامدة *** حتـــــى المــــنابر ترثي وهي عيدان
وتختتم القصيدة بنغمة حزينة شجية تسفر عن الأسى العميق والتماس العظة والعبرة فيما حل بالأندلس:
لمثل هذا يـذوب الــقلب من كمدٍ *** إن كان في القلب إسلام وإيمان!
وأهمية رثاء المدن أنه يكشف عن جوانب ثرية من التاريخ السياسي بين المسلمين والنصارى في الأندلس. كما يكشف جانبا من النقد الذاتي الذي واجه به الأندلسيون أنفسهم حين أَدركوا أن الانغماس في حياة اللهو والترف أدى إلى سقوط راية الجهاد، وأن ملوك الطوائف حين حرصوا على ملكهم الفردي أضاعوا ملكًا أعظم. وما أصدق سخرية الشاعر المصحفي حين قال:
ممـا يزهـدني فـي أرض أندلس *** أسمــــاء معتــــضدٍ فيها ومعتمد
ألقاب مملكة في غير موضعها *** كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد