لا نعرف مَن مِن الشعراء العرب كان أوَّل من تحدث بالفحش الإباحي فيما يقوله وينظمه، ولكننا نعرف أن ما يسمى بالشعر المكشوف في العصر الجاهلي كان من القِلَّة بحيث لا يُقْرَن بالشعر الْخُلُقي التي ترجح كفته في ميزان الفضائل، فالجاهلي ذو شَمَم أَنِف، يرتفع به عن الانحدار الطائش في أكثر ما نُظِم من الغزل، مع أنه أَكْثَرَ من هذا الفن إكثارا بحيث لا تكاد تَشِذُّ عنه قصيدة طويلة تَعَمَّد صاحبها أن تبلغ مبلغها من النفوس، فبدأها بالغزل والحنين. ثم جاء الإسلام فكانت له حوافظه الخُلقية الراقية، فارتفع بالمستوى الخُلقي لدى الشعراء ارتفاعا نلمَسُه في شعراء هذه الحقبة ممن استضاءوا حقيقة بنور الإسلام، ولكن الأمر قد انتكس بعض الانتكاس فيما تلا ذلك من الشعر الأموي، حيث أباح شعراء النقائض لأنفسهم أن يَلَغوا في الأعراض ولوغا دعا إلى التسفل الإباحي، ثم طمَّ السيل في مطلع العصر العباسي على أيدي بَشَّار بن برد، وحَمَّاد، وأبي نواس، ومطيع بن إياس، ومن لا نكاد نحصي من الشعراء لكثرة ما تردد في هذا المجال من قصائد داعرة.
هذا في الشعر، أما النثر -علميا وفنيا- فلا نعرف قبل الجاحظ كاتبا فتح باب القول في الأدب الإباحي بإفراط بَشِع، تراه على أوضح وجوهه في كتاب الحيوان، وفي رسالته عن القِيَان والغِلمان، ولم يقتصر الجاحظ على القول العام دون تحديد، بل عيَّن أناسا من الساقطين تحدث عن منحدراتهم مكرِّرا مردِّداً. وإذا كان الجاحظ يعتبر نفسه أديبا متساهلا يصور ما يرى ويسمع دون حرج، فإن ابن قتيبة العالم الوقور المتزن قد حبَّذ منحاه، واقتبس منه في بعض ما كتب، فإذا كان الجاحظ يرمي المتشددين في الجزء الثالث من الحيوان بالوقار الْمُتَكَلَّف، ويتهكم على ما سماه التورع والتصنع، داعيا إلى الإباحة المطلقة في ذكر الأعضاء التناسلية ومواقف الجنس، ومستشهدا بكلام لا أراه يثبت ثبوتا أمينا عن علي بن أبي طالب وعبد الله بن عباس وأبي بكر رضي الله عنهم، إذا كان الجاحظ قد فعل ذلك، ولا غرابة فيه من مثله، فإن ابن قتيبة قال صراحة في مقدمة عيون الأخبار: “وإذا مرَّ بك حديث فيه إيضاح بذِكْرِ عورة، أو فَرْج، أو وَصف فاحشة، فلا يَحْمِلَنَّك الخشوع أو التخاشع على أن تُصَعِّر خدك للناس وتُعْرِض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تُؤَثِّم، وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب”، ونحن مع ابن قتيبة في أن المأثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب، ولكن المأثم يكون كذلك في ذكر الأسماء القبيحة متصلة بسياق فاجر، لأن هذه الأسماء لا تذكر منفردة مبتورة، ولكنها تساق في حادثة مشتهرة أو وصف ماجن لموقف منْحَدِر، فتفتح أبوابا من الشر.
وإذا كان صاحب عيون الأخبار يقول بعد ذلك: “ولم أترخص لك في إرسال اللسان بالرفث لتجعله سبيلك في كل حال، وديدنك في كل مقال، بل الترخيص مني في حكاية تحكيها، أو رواية ترويها تنقصها الكناية، ويذهب بحلاوتها التعريض”، إذا قال الرجل الوقور ذلك، فإن ما دعا إليه من الاقتصار في هذا الضرب لم يجد موضعا للإصغاء، إذ ورط المؤلفين من بعده في ذكر فضائح مُتَدَنِّية صارت هي لأصل في التأليف، وصار ما عداها تبعا لها، وكتاب اليتيمة بأجزائه الأربعة للثعالبي قد حشي حشوا بما يندى له الجبين، ولا يُنْقِصُ الأدبَ العربي شيئا إذا حذفت منه الأشعار الماجنة، لا سيما وبعضها لا ينتسب إلى الشعر في صقله الأسلوبي وخياله التصويري، ولكنه أشبه بفحش السوقة ممن يعشقون البذاءات مرضاة لنشأة عقيمة في ظلال الحرمان، أجل، لن يضير كتاب اليتيمة بأجزائه الأربعة في فنه الأسلوبي إذا حذفت منه هذه العورات.
وفي عصر الثعالبي وجد شاعر رقيع اسمه ابن حجاج لم يخل قصيده من أبشع ما يقال، وبالغ في الانحدار بذكر القاذورات النجسة، ذكرا تتقزز منه المشاعر، وتنفر الأحاسيس، لأن كلامه التقريري في هذا المجال أشبه بكلام السفلة من رعاع الرعاع!
أفيدري القارئ ما عقبى هذا الديوان الخسيس؟
لقد احتفت به جامعة “جيسن” في ألمانيا، حيث قسمته إلى عشرة أجزاء، ووزعته على طلاب الدكتوراه من أبناء العرب والمسلمين ليأخذ كل دارس قافية كالهمزة أو الباء أو الراء أو النون أو الميم أو العين أو الياء مما يكثر فيها الوزن، لتكون كل قافية من هذه الحروف وحدها مجال التدوين والذيوع في رسالة علمية دون دراسة منهجية، بل يكتفى بتقديم مبتور عن الشاعر وعصره، وكأن صاحبه يكتب أرشيفا فقط، وبين يَدَيَّ الجزء الخاص بحرف النون وهو يشمل 360 صفحة، كلها فجور متهتك، وليس بِها من الخيال والتصوير ما قد يشفع لها عند من يزعمون أن الفن للفن، وأنت تتساءل لماذا اهتمت جامعة “جيسن” بابن حجاج وأمثاله من الرقعاء وحدهم.
فتعرف أن الغرض الواضح هو كشف انحدار من غرقوا في الإسفاف المبتذل إلى الأذقان، دون أن يبدعوا شيئا من الفن الشعري الأصيل، باعتبارهم أنموذجا لشعراء العرب في مُختَلِف العصور، وكأن الشعر العربي لم يعرف سواهم من ذوي المروءات!
وأعجب شيء أن نجد لدينا من أغواهم نشر هذه السقطات الوبيئة فعدوها من الصور الخالصة للفن، واتجهوا إلى أمثالها في الأدب الأوروبي شعرا ونثرا -وبخاصة في ميدان القصة- لينقلوه مترجمين، ويحاكوه مؤلفين، ويحبذوه ناقدين. ثم يتتبعون طوائف من الأقوال الساقطة التي تؤيد هذا الإسفاف مثل قول القديس “كليمان”: “أنا لا أخجل من الكلام على أعضاء الجنس لأن خالقها لم يخجل من خلقها”، وهو قول يحمل من التوقُّح والسفه ما يستغرب من قسيس يقال إنه ذو قداسة، وإذا قال القديس ذلك فماذا يقول العربيد الوضيع! وإذا شئنا أن ننقل غرائب مماثلة لهذا القول تُرْوَى لعشرات من الأدباء هناك فلن يُعْوِزَنَا شيء، ولكن نتساءل: لماذا نذيع أقوال المستهترين بيننا، ونحرص على التبجح بها في مجال الحديث عن الفن للفن، ولا نذكر أقوال الطرف الآخر ممن ينأون بمقامهم عن الإسفاف!
فـ”تولستوي” مثلا الذي لا يُنكر مكانُه في الأدب الروسي بخاصة والأدب العالمي بعامة، وهو يقول صريحا –ومكررا ومعيدا- “إن الفن الذي يستهلك جزءا كبيرا من نشاط الإنسان لا ينبغي أن يضيع في وصف الشهوات الآثمة”. وإذا كانت غاية الفن عند “تولستوي” أن يتصل بنفوس الجماعة، وأن يرتفع بمستواها الشعوري، فلا بد أن يتمسك بالفضائل، وأن يلتزم بالشعور الديني النبيل. وهذا القول الحكيم لا يلتفت إليه في مجال الرصد لأقوال المفكرين، لأنه لا يُرضي نزعات المتسفِّلين، أما ما يشبع هذه النزعات ويدفعها أن تخوض في الأوحال وأن تعمل على إيجاد جيل مريض فلا بد أن يَذِيع ويَشِيع.
أذكر أن الأستاذ أحمد حسن الزيات قد حارب الأدب الماجن في مجلة الرسالة محاربة لا هوادة معها، فكان يحرم نشر ما يأتيه من هذا اللون، وفيه قصص وقصائد لأعلام من الكتاب والشعراء في الشرق والغرب، وحين تعرض لعتاب بعض من لا يفهمون رسالة الأدب على وجهها الصحيح، صَدَّرَ أحد أعداد الرسالة بافتتاحية جعل عنوانها: أدب اللذة وأدب المجون، جاء فيها قوله: “ولكن دواعي أدب المجون التنفيس عن رغبة مكظومة، أو التعبير عن عاطفة جائشة، والتحرر من التزامات مقيدة، وأقل دواهيه أن تزول الحدود بين المعروف والمنكر، فلا يكون هناك فارق بين حلال وحرام، ولا بين نظام وفوضى، ولا بين إنسان وحيوان. والناس مذ بث الله في أبويهم آدم وحواء فضيلة الحياء، فخصفا على جسديهما العاريين من ورق الجنة، فهموا أن للجنس عورات لا تظهر، ولما هذبهم الدين، ووثقهم العلم، وصقلهم التحضر، شعروا كذلك أن للفكر عورات لا يجوز أن تنشر، فهم بحكم الحرية والاستقلال والانطلاق، يقولون ويفعلون في خلواتهم ومباذلهم ما شاءوا، ولكنهم بحكم الدين والقانون والعرف يسترون سوءاتهم ونزواتهم ما استطاعوا فلا يقولون كل حق، ولا يصورون كل حالة، ولا يظهرون كل شيء، مراعاة لشعور الجملة، ومحافظة على كرامة الإنسان.
والأستاذ الزيات يتحدث عما كان، لا عما ينبغي أن يكون، إذ مما ينبغي أن يكون ألا يقول الناس أو يفعلوا في خلواتهم ما يغضب الله تعالى.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) نقلا عن مجلة الوعي الإسلامي، العدد 312، (ص: 49-53) باختصار وتصرف يسير.