كنت أشرت في مقال سابق إلى إن من نوادر المخطوطات العربية، وذخائر المكتبة المغربية (كتاب المترع البديع) في تجنيس أساليب البديع..لأبي محمد السجلماسي، وأعطيت صورة مختصرة عنه، لكنني كنت أجهل كل شيء عن مؤلفه، والآن وقد تصفحت الكتاب وقرأت كثيرا من مباحثه وفصوله أحببت أن أعود إلى الموضوع، وأعرف بالكتاب وبمؤلفه، سيما والكتاب صفحة مشرقة من تاريخنا الأدبي، والمؤلف من الشخصيات الغامضة التي طواها الإهمال من سجل التاريخ، وكان الذي دفعني إلى هذا أمرين:
1ـ أن ابن خلدون ذهب في المقدمة، إلى أن المغاربة لم يؤلفوا في البلاغة والبيان، لدقة انظارهما، وغموض معانيهما، وشياعه على هذا الرأي طائفة من مؤرخي الأدب العربي في العصر الحاضر، وخير وسيلة –في نظري- لتصحيح هذا الخطأ أن نعرف ببعض الكتب التي ألفها المغاربة في البلاغة والبيان، قبل عصر ابن خلدون، ونعرض نماذج حية منها على أنظار القارئ ليشاطرنا الرأي.
2ـ فتح قوس لترجمة عالم مغربي فذ، لم تذكر كتب التراجم حتى اسمه، فضلا عن تاريخ حياته، شأنها في ذلك مع كثير من نوابغنا، وقديما وسم أهل المغرب بالتقصير، وإهمال تاريخهم، وما لنا نذهب بعيدا، فإلى عهد قريب كنا لا نعرف أي شيء عن المراكشي مؤلف المعجب، وابن عذاري صاحب البيان المغرب، وأضرابهما ولولا كتاباهما الخالدان اللذان عثر عليهما مؤخرا، وكان الفضل في نشرهما لبعض المستعربين، لما كان لذكرهما وجود، ولظلت آفاق في تاريخنا من مجاهل التاريخ.
وأبو محمد السجلماسي من هذا القبيل، فقد أخطأت عين الزمان –وهو البصير الحاد- نسخة فريدة من كتابه (المترع البديع) فكانت كنافذة يشع منها بصيص من النور على جنبات من حياة المؤلف، ومن خلال هذا الكتاب يستطيع الباحث أن يضع الخطوط الأولى لترجمته، والمؤلف هو أبو محمد القاسم بن محمد بن عبد العزيز الأنصاري السجلماسي…
وأبو محمد من العائلات الأنصارية التي وردت على المغرب في فترات تاريخية، وهي منتشرة بكثرة في الأوساط المغربية والأندلسية، ويوجد مكتوبا على ظهر الورقة الأولى من المخطوط في زاوية على اليسار بخط خفي: (الأنصاري النِّجار، السجلماسي الدار).
ويبدو مما جاء عرضا في درة الحجال 2/469: أن النسبة الأصلية لأبي محمد تنوسيت وتنوسي معها أن أبا محمد ولد ونشأ بسجلماسة، ورحل إلى فاس للأخذ عن علمائها، وجلس للتدريس بها، وهناك، ومن أحد كراسي (القرويين) أملى على تلاميذه كتابه (المترع البديع) وفرغ من إملائه أواخر صفر عام أربع وسبعمائة هجرية، وممن تتلمذ عليه إبراهيم بن محمد الغساني الشهير بالوزير، أما متى ولد؟ ومتى توفي؟ وأين؟ فذلك ما لا نستطيع تحقيقه الآن، وكل ما نستطيع أن نقول هو أن أبا محمد السجلماسي من مواليد النصف الثاني من القرن السابع الهجري، وأن وفاته ربما كانت في العقد الثاني أو الثالث من المائة الثامنة للهجرة.
وعاش أبو محمد في العصر المريني، الذي ازدهرت فيه علوم العربية وبلغت ما لم تبلغه في أي عصر كان ونال علم البيان اعتناء كبيرا، والمرجح أنه في هذا العصر ابتدأ تدوين البلاغة بالمغرب، وربما كان أبو محمد السجلماسي أول مؤلف فيها بالمعنى الصحيح، وممن أسهم في هذا الميدان من علماء هذا العصر:
1ـ ابن البناء المراكشي: أبو العباس أحمد بن محمد بن عثمان (721هـ) له كتاب (الروض المربع في صناعة البديع) وتكلم عن كثير من مسائل البلاغة في تفسيره لسورة الكوثر، حتى قال بعضهم، أن أبا عبد الله الضرير المراكشي استقى منه كثيرا في نظمه لمصباح ابن مالك في المعاني والبيان.
2ـ ابن رشيد: أبو عبد الله محمد بن عمر السبتي (721هـ) وأكثر مباحث ابن رشيد في البديع، وله في ذلك كتابان: أحكام التأسيس في أحكام التجنيس، وإيراح المريع لرائد التشجيع والترصيع.
3ـ أبو القاسم الشريف: محمد بن احمد السبتي (760هـ) له شرح على مقصورة حازم سماه (رفع الحجب المنشورة)، على محاسن المقصورة، تناول في مقدمته دراسة أصناف البديع، وكثيرا من مسائل البيان كالتشبيه والكناية والاستعارة.
4ـ أبو عبد الله المراكشي: محمد بن عبد الرحمن الضرير (807هـ) له رجز في علوم البلاغة، حاذى فيه مصباح ابن مالك، قيل أنه التقطه من الحلية، والطيبي، والتجديهي، والصناعتين للعسكري..وأخذ كثيرا من تفسير سورة الكوثر لابن البناء كما أشرنا إلى ذلك سابقا، ولأبي عبد الله الضرير شرح على هذا الرجز أملاه على تلاميذه في حلقات دروسه بمراكش.
ويجب أن نلاحظ أن هناك ظاهرة تبدو جلية على مؤلفات هذا العصر، وهي أنها اتجهت أكثر إلى الصنعة اللفظية، والمحسنات البديعية، حتى الذين ألفوا في البلاغة والبيان، حاولوا أن يكسوها حلة بديعة، وجعلوا عناوين كتبهم (البديع) ولعل للعصر الذي عاشوه أثرا في ذلك، ومعلوم أن العصر المريني كان عصر الزخرف والصنعة، طفت على رجال الأدب فيه (موضة) التفنن والإبداع، وربما كان هذا هو الحامل لابن خلدون أن يقول فيهم ما قال.
وكان أبو محمد السجلماسي على جانب كبير من الثقافة اللغوية والأدبية، وله تضلع في النحو ومذاهبه ومشاركة في التفسير والحديث، والفقه والأصول، وله إلمام بعيد في الفلسفة والمنطق وعلم الكلام، وكان متأثرا بفلسفة أرسطو، وله آراء في البلاغة والنقد تتجلى في كثير من مباحث كتابه (المترع البديع).
ومن شيوخه –كما قال في نوع الترصيع- ص143- قال: قال لي شيخنا أبو عبد الله -قدس الله روحه- أن سورة الواقعة من نوع الترصيع، وتتبع أجزائها يؤذن بأن فيها موازنة قال: ويحتمل كلام الشيخ وجهين: أحدهما أن تكون تسمية السورة بجملتها ترصيعا، اعتبارا لأحد جزأيها، والثاني أن يكون سماها بجملتها ترصيعا، إلقاء للفصلين بين الترصيع والموازنة بابا واحدا وترجم عليها باسم الترصيع، وبالجملة فما لم يكن منها في نوع الترصيع فهو في الموازنة، وهما متقاربان وكل ذلك مما ورد في التنزيل، وما ورد منهما فيه ففي أعلى طبقة لتوفر الشروط فيهما.
وأوردت هذا النص برمته ليعلم القارئ من خلال هذا النقاش بين الأستاذ وتلميذه أن مدارسنا في هاذ العصر كانت تدرس البلاغة في مستوى عال، وفي جو قرآني أدبي..
وإذا أوضحنا بعض جوانب من حياة المؤلف فلنعد إلى الكتاب، ولنبدأ –بادي ذي بدء- بالتعريف بالمخطوط وهي –فيما اعلم- نسخة فريدة لا أخت لها، توجد بمكتبة المعهد العالي بتطوان تحت رقم 932، والمخطوطة مجلد ضخم يقع في 236 –صفحة من القطع الكبير، النوع القديم في كل صفحة 26 سطرا بخط مغربي جيد، وتعتبر هذه النسخة على ما يبدو- الفرع الثاني للأصل وهو منقول عن الفرع الأول لتلميذ المؤلف: إبراهيم الغساني السالف الذكر.
والنسخة كثيرة التصحيف والتحريف، مما يجعل القارئ يقف طويلا في قراءة كثير من فصول الكتاب، ويحار أحيانا في فهم عباراته ونصوصه.
والكتاب يبدأ بمقدمة أبان فيها المؤلف أن الغرض من كتابه: (إحصاء قوانين أساليب النظوم التي تشتمل عليها الصناعة الموضوعة لعلم البيان وأساليب البديع، وتجنيسها في التصنيف وترتيب أجزاء الصناعة في التأليف، وتحرير تلك القوانين الكلية، وتجريدها من المواد الجزئية)، ثم بين أن كتابه يشتمل على عشرة أجناس: الإيجاز، التخييل، الإشارة، المبالغة، الرصف، المظاهرة، التوضيح، الاتساع، الانثناء، التكرير.
وقد أوضح المؤلف في هذه المقدمة، وفي كثير من أبواب الكتاب أن موضوع كتابه ليس علم البديع فقط –كما يوهمه عنوان الكتاب- بل ما يشمل البيان…
وإذا كان هناك ما يؤخذ على المؤلف، فهذه التقسيمات الفلسفية، والتعريفات المنطقية التي دفعته إليها طريقة التجنيس والتنويع، والتي أصبح خاضعا لها –أراد أم لم يرد- مع كل جنس من الأجناس العشرة التي بني عليها كتابه، فهو مضطر لأن يعرف لنا ما هو الجنس؟ وهل هو عال، أو متوسط، أو أسفل؟ وما هناك من فروق ذاتية، وعرضية؟ فبينما نرى المؤلف في ظلال أدبية: تشبيهات بديعية، وكتابات جميلة، مع البحتري، والمتنبي، وأبي تمام، أو مع ابن خفاجة، وابن زيدون، إذا به مع أرسطو، والأسكندر، والفرابي، وابن سيناء..وربما أقحم نفسه في حرب عنيفة مع السفسطائيين.
وهنا ننشد مع البحتري قوله:
كلفـــتمـونا حـدود منطـقكم والشعر يكفي عن صدقه كذبه
المقال سعيد أعراب مجلة دعوة الحق،
العدد الرابع السنة الخامسة
شعبان 1381/ يناير 1961
بتصرف