بعد انهيار الدولة العباسية ببغداد سنة 656هـ على يد هولاكو، وبعد استيلاء التتار على معالم الثقافة العربية بالعراق، تأسست دولة المماليك بمصر والشام وعمل ملوكها على نشر الثقافة الإسلامية والمحافظة على قوة اللغة العربية، فأسسوا دولة المماليك بمصر والشام وعمل ملوكها على نشر الثقافة الإسلامية والمحافظة على قوة اللغة العربية، فأسسوا مدارس مختلفة، وشجعوا الحركات العلمية، وأكرموا الوافدين عليهم من جميع الأقطار، وربطوا العلاقات بينهم وبين ملوك المغرب، فكان كثير من العلماء ينتقلون من المغرب إلى المشرق عاملين على إثبات الألفة بين عامة المسلمين.
ولقد أدت عناية المماليك بالعلم إلى ازدهار ظهر أثره في المؤلفات التي خلدها التاريخ لرجال كان همهم نشر الثقافة الإسلامية، والمحافظة على اللغة العربية، وكان يظهر على هاته المؤلفات طابع الموسوعية التي تعتبر علامة للنشاط الثقافي العام حينذاك، ومن أهم هاته الكتب كتاب ((صبح الأعشى في كتابة الإنشا))، لأبي العباس أحمد القلقشبندي المصري، المولود سنة 756هـ والمتوفى سنة 821هـ.
صبح الأعشى هذا كتاب يحتوي على أربعة عشر مجلدا تشتمل على ما يقرب من سبعة آلاف صفحة، وهو كتاب رائع من الكتب التي لا يستغني عنها الأديب، أو المؤرخ، أو عالم الدراسات الاجتماعية، أو المهتم بالنظم الإدارية والانقلابات السياسية، لأنه كتاب حوى من كل فن طرفا، مع سلاسة في الأسلوب، وروعة بهاته التسمية لأنه يعتبره نورا يهتدي به الكتاب إلى معرفة صناعتهم، ومرشدا لهم يقوون به ملكاتهم، ويوسعون بمحتواه ثقافتهم، ويصعدون بسببه مدارج الرقي.
فالأعشى في اللغة هو ذلك المصاب بمرض في عينيه يفقد بسببه الرؤية إذا انعدمت أشعة الشمس، فهو يرى نهارا ولا يبصر ليلا.
سبحان من قسم الحظو ظ فلا عتـاب ولا ملامـة
أعمـى وأعشي ثـم ذو بصـر وزرقاء اليمامـة
ولا ريب أن الأعشى لا ينتظر للفرجة عنه وإبعاد الظلمة عن عينيه غير الصباح، فإذا كان هذا الكتاب بمثابة الصبح للأعشى، فمعنى ذلك أن الكتاب لن يوفقوا في خطتهم إلا إذا درسوه، ولن يبدعوا في صناعتهم إذا لم يجعلوه رائدا ومنارا.
والمراد بكتابة الإنشاء، كتابة ديوانها، وهو ديوان كان يتولى متقلده مهام جسيمة ترجع إلى تنظيم المراسلات العامة، سواء منها الصادرات والواردات، والعمل على تنظيم البريد، والاهتمام بشؤون الجواسيس والعيون، ولا ريب أن الاهتمام بمثل هذه الأمور يتطلب من الكاتب أن يكون قوي الملاحظة، حاد الذكاء ذا خبرة عامة ومرونة سياسية، لأنه الواسطة بين ملكه وبين باقي الملوك في الأرض، وقد يؤدي إهماله لواجبه أو جهله بصناعته إلى قيام حروب وخلق عداوات وحزازات، فمن المعلوم أن الرسائل صورة لمرسليها، وأن لهجاتها تختلف باختلاف المرسل إليهم، فهي تحتاج تارة إلى المراوغة، وأحيانا إلى الوضوح، وآونة إلى الشدة، وتحتاج في بعض الظروف إلى الاحتمال والتورية والتعويض، فكان من الواجب على الكاتب أن يتعلم صناعته ويسعى في تكميلها، ويستغل تجاربه الخاصة حتى يضفي عليها من ذلك قوة ويبعث فيها الحياة.
ولما كان القلقشندى من الذين برعوا في كتابة الإنشاء على حداثة سنه، ورأى أنها صنعة تحتاج إلى تعهد وعناية، ورأى أن المؤلفين الذين كتبوا في تحليلها قد اختلفت مقاصدهم في التصنيف، وتباينت مواردهم في الجمع والتأليف، وأن أهم الكتب التي ألفت فيها كتاب ((التعريف بالمصطلح الشريف)) للقمر الشهابي أحمد بن فضل الله العدوي العمري، وكتاب (تثقيف التعريف) لابن ناظر الجيش، ورأى أن هذين الكتابين لا يفيان بالمقصود رغم عناية مؤلفيهما بوضعهما، دعته همته إلى عدم الاكتفاء بهما، وإلى العمل على تأليف كتاب يكون جامعا لمقاصدهما، مع إتمام ما غفلا عنه، ولم يشرع في ذلك من أول وهلة، بل ألف أول الأمر مقامة تشتمل على جملة من صناعة الإنشاء سماها) بالكواكب الدرية في المناقب البدرية) ووجهها لتقريظ المقر البدري صاحب ديوان الإنشاء بالديار المصرية آنذاك، ثم عمد إلى شرحها وتحليلها فكانت النتيجة أن قدم لنا كتاب (صبح الأعشى في كتابة الإنشاء).
وكان يعتبر تأليفه لهذا الكتاب أمرا ضروريا رغم ما ألف من الكتب قبله فهو يقول: “وكيفما كان فالانتصار على معرفة المصطلح قصور، والإضراب عن تعرف أصول الصنعة ضعف همة وفتور، والمقلد لا يوصف بالاجتهاد، وشتان بين من يعرف الحكم عن دليل ومن جمد على التقليد.
ولم أر في عيــوب الناس شيئــا كنقص القادريـن على التمــام
وقد ثبت في العقول أن البناء لا يقوم على غير أساس، والفرع لا ينبت إلا على أصل، والثمر لا يجتني من غير غراس..”.
فهو في هذا النص لا ينكر فضل المتقدمين، ولكنه يرى أن الاقتصار على ما ألفوه يعتبر تعطيلا للهمم وإماتة للقرائح، وما ألطف استدلاله ببيت المتنبي ذلك البيت الشعري الذي يعد بحق دستورا للطامحين والكادحين.
ولما ألف كتابه سار فيه على منهاج خاص، ووضع له تصميما حدد به الموضوعات التي سيهتم بدراستها وبناء على مقدمة وعشر مقالات وخاتمة.
محمد بن عبد العزيز الدباغ مجلة دعوة الحق العدد57 السنة 1963.