واحة الأدب

التجنيس: اللفظ واحد والمعنى مختلف
عرف ابن المعتز مؤصل علم البديع التجنيس بقوله: “التجنيس: أن تجيء الكلمة تجانس أخرى في بيت شعر وكلام، ومجانستها لها أن تشبهها في تأليف حروفها”.
وحقيقة الجناس عند ابن الأثير هي: “أن يكون اللفظ واحدا، والمعنى مختلفا”.
وعليه فالجناس هو: تشابه اللفظين في النطق واختلافهما في المعنى، وهذان اللفظان المتشابهان نطقا المختلفان معنا يسميان “ركني الجناس” ولا يشترط فيهما دائما تشابه جميع الحروف، بل يكتفي في التشابه بينهما ما تعرف به المجانسة.
والتجنيس ضروب كثيرة: منها المماثلة، وهي: أن تكون اللفظة واحدة باختلاف المعنى، نحو قول زياد الأعجم يرثي المغيرة ابن المهلب:
فانع المغيرة للمغيرة إذ بدت *** شعواء مشعلة كنبح النابح
فالمغيرة الأولى: رجل، والمغيرة الثانية: الفرس، وهو ثانية الخيل التي تغير.
وأنشد سيبويه:
أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة *** قليل بها الأصوات إلا بغامها1
البلدة الأولى: صدر الناقة، والثانية: المكان من الأرض.
ومثله ما أنشده ثعلب:
وثنية جاوزتها بثنية *** حرف يعارضها ثني أدهم
فالثنية الأولى: عقبة، والثانية: ناقة، والثني الأدهم: الظل، استعار له هذا الاسم.. ويروى “حبيب أدهم”.
ومثله أنشده أبو عمرو بن العلاء: عود على عود على عود خلق، وقال: الأول الشيخ، والثاني: الجمل المسن، والثالث: الطريق القويم قد ذلل بكثرة الوطء عليه.
ويجري هذا المجرى قول الأودي:
وأقطع الهوجل2 مستأنساً *** بهوجل3 عيرانة4 عيطموس5
أنشده قدامة على أنه طباق، وسائر الناس يخالفونه في هذا المذهب، وقد جاء رد الأخفش علي بن سليمان عليه في ذلك وإنكاره على رأي الخليل والأصمعي في كتاب حلية المحاضرة للحاتمي.
وعلى القول الأول قال أبو نواس في ابن الربيع:
عباس عباس إذا حضر الوغى *** والفضل فضل والربيع ربيع
وقال أبو تمام:
ليالينا بالرقمتين وأهلنا *** سقى العهد منك العهد والعهد والعهد
فالعهد الأول المسقي: هو الوقت، والعهد الثاني: هو الحفاظ، من قولهم “فلان ماله عهد” والعهد الثالث: الوصية من قولهم “عهد فلان إلى فلان، وعهدت إليه” أي: وصاني وصيته، والعهد الرابع: المطر، وجمعه عِهَادٌ، وقيل: أراد مطراً بعد مطر بعد مطر، وفسر ذلك بقوله:
سحاب متى يسحب على النبت ذيله *** فلا رجل ينبو عليه ولا جعد
واستثقل قوم هذا التجنيس.
ومن مليح هذا النوع قول ابن الرومي:
للسود في السود آثار تركن بها *** لمعاً من البيض تثني أعين البيض
فالسود الأول: الليالي، والسود الآخر: شعرات الرأس واللحية، والبيض الأول: الشيبات، والبيض الآخر: النساء..
وزعم الحاتمي أن أفضل تجنيس وقع في قول عبد الله بن طاهر:
وإني للثغر المخيف لكاليء *** وللثغر يجري ظلمه لرشوف

التجنيس المحقق
التجنيس المحقق: ما اتفقت فيه الحروف دون الوزن، رجع إلى الاشتقاق أو لم يرجع، نحو قول أحد بني عبس:
وذلكم أن ذل الجار حالفكم *** وأن أنفسكم لا يعرف الأنفا
فاتفقت الأنف مع الأنف في جميع حرفها دون البناء، ورجعا إلى أصل واحد، هذا عند قدامة أفضل تجنيس وقع، ومثله في الاشتقاق قول جرير والجرجاني يسميه التجنيس المطلق، قال: وهو أشهر أوصافه:
وما زال معقولاً عقال من الندى *** وما زال محبوسا عن الخير حابس
وقال جرير أيضاً، وفيه المضارعة والمماثلة والاشتقاق، وأنشده ابن المعتز:
تقاعس حتى فاته المجد فقعس *** وأعيا بنو أعيا وضل المضلل
وقال خلف بن خليفة الأقطع:
فإن يشغلونا عن أذان فإننا *** شغلنا وليداً عن غناء الولائد
يعني الوليد بن زياد بن عبد الملك، وقال أبو تمام فأحكم المجانسة بالاشتقاق:
بحوافر حفر وصلب صلب *** وأشاعر شعر وخلق أخلق
فجنس بثلاث لفظات، ومثله قول البحتري:
صدق الغراب، لقد رأيت شموسهم *** بالأمس تغرب عن جوانب غرب
العمدة في محاسن الشعر وآدابه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1 البغام: صَوت النّاقة.
2 الهَوْجَل: الأَرض التي لا مَعالم بها.
3 الهَوْجَل: الناقة السريعة الذاهبة في سيرها.
4 العَيْرانَةُ: الناقة تشبّه بالعَيْرِ في سرعتها ونشاطها.
5 قال الأَصمعي: العَيْطَموس: الناقة التامَّة الخلْق.
……………………………………………………..

سجال عبيد بن الأبرص وامرئ القيس

مما حملت إلينا كتب الأدب العربي فن الأوابد (جمع آبدة) وهي في اللغة تعني الأشياء البعيدة الغور أو الغريبة أو النافرة الوحشية.
وفي المصطلح تعني أن يتساجل شاعران فيذكر أحدهما بيتاً يحمل سؤالاً أو عقدة، فيجيبه الآخر على وزنه وقافيته ببيت فيه إجابة لسؤاله، أو رد لكلامه.
ومن تلك الأوابد ما جاء في ديوان امرئ القيس بن حُجر الشاعر الجاهلي، من أن عبيد بن الأبرص الأسدي لقيه فقال له: كيف معرفتك بالأوابد؟ فقال امرؤ القيس: ألق ما شئت تجدني كما أحببت.
فقال عبيد:
ما حَيَّةٌ مَيْتَةٌ أَحْيَتْ بِمَيِّتِها *** دَرْداءَ1 ما أَنْبَتَتْ ناباً وأَضْراسا؟
فقال امرؤ القيس:
تِلْكَ الشَّعِيرَةُ تُسْقى في سَنابِلِها *** فَأَخْرَجَتْ بعد طُولِ المُكْثِ أَكداسا2
فقال عبيد:
ما السُّودُ والبِيضُ والأَسْماءُ واحِدَةٌ *** لا يَسْتَطِيعُ لَهُنَّ النَّاسُ تَمْساسا3؟
فقال امرؤ القيس:
تلك السَّحابُ إِذا الرَّحْمَنُ أَنشأَها *** رَوَّى بِها من مَحُولِ4 الأَرْضِ أَيباسا5
فقال عبيد:
مَا مُرْتجاةٌ6 علَى هَوْل مَرَاكِبِهَا *** يَقْطَعْنَ طُولَ المَدَى سيراً وإمْرَاسًا؟
فقال امرؤ القيس:
تَلْكَ النُّجومُ إذَا حَانْتْ مَطَالَعُهَا *** شَبَّهتهَا فَي سَوَادِ الليل أقْباساً
فقال عبيد:
مَا القَاطِعَات لأرْضٍ لاَ أَنيسَ بِهَا *** تَأْتِي سِرَاعاً وَمَا تَرْجِعْن أنكاساً؟
فقال امرؤ القيس:
تِلكَ الرِّياحُ إَذَا هَبَّت عَوَاصِفهَا *** كَفَى بِأَذْيَالِهَا لِلتُّرْبِ كنَاساً
فقال عبيد:
مَا الفَاجِعَاتُ7 جِهَاراً فِي عَلاَنيةٍ *** أَشَد مِنْ فيلقٍ مَمْلُوءة بَاساً؟
فقال امرؤ القيس:
تِلكَ المَنَايَا فَمَا يُبقِينَ مِنْ أَحَدٍ *** يَكْفِتْن8َ حمقى وما يبقين أكياساً
فقال عبيد:
مَا السَّابِقَاتُ سِرَاعَ الطَّيْرِ فِي مَهلٍ *** لاَ تَسْتَكِينُ وَلوْ أَلْجَمْتَهَا فَاساً9؟
فقال امرؤ القيس:
تِلكَ الْجِيَّادُ عَلَيْهَا الْقَوْم قَدْ سَبَحُواْ *** كَانُوا لَهُنَّ غَدَاةَ الرَّوْعِ أَحْلاَساً10
فقال عبيد:
مَا القَاطِعَاتُ لأرْضِ الجَوِّ فِي طَلَقٍ *** قَبْلَ الصَّبَاحِ وَمَا يسرين11 قرطاساً؟
فقال امرؤ القيس:
تِلكَ الأَمَانِي تَتْرُكْنَ الفَتَى مَلِكاً *** دُونَ السَّمَاءِ وَلَمْ تَرْفَعْ بِهِ رَاساً
فقال عبيد:
مَا الْحَاكِمُونَ بِلاَ سَمْعٍ وَلاَ بَصَرٍ *** وَلاَ لِسَانٍ فَصِيحٍ يُعْجِبُ النَّاسَا؟
فقال امرؤ القيس:
تَلْكَ المَوَازِينُ وَالرَّحْمَنُ أَنْزَلَهَا *** رَبُّ البَرِيَّةَ بَيْنَ النَّاسِ مِقْيَاساً
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: رجل أدْرَدُ بَيّن الدَّرَدِ أي ليس في فمه سن والأنثى دَرْدَاءُ.
2: الأكداس: الحب الكثير من الشعير يتكدس بعضه على بعض.
3: التمساس: المسُّ باليد.
4: المحول: جمع محل، وهي الأرض التي لا نبات بها.
5: الأيباس: التي لم يبلها المطر.
6: المرتجاة: المتعلق بهن الرجاء.
7: الفاجعات: الآتية بالفواجع.
8: كفت الكاف والفاء والتاء أصلٌ صحيح، يدلُّ على جَمْعٍ وضمّ.
9: الفأس: حديدة اللجام المعترضة وجه الفرس.
10: الحِلس: الكساء يُطرَح على ظهر البعير، ويقال فيمن لزموا ظهور الخيل: هم أحلاسها هذا إذا مُدِحوا بالفروسيَّة.
11 يسرين: أي يمشين في الليل.
……………………………………………………………

أقبل فصل الربيع
قال الثعالبي رحمه الله: “قد أقبل الربيع بأسعد فاله، والحسن والطيب في إقباله. أقبل الربيع يتبسم، ويكاد من الحسن يتكلم، تنفس الربيع عن أنفاس الأحباب، وأعار الأرض أثواب الشباب، تنفس فنفس عن المكروب، وأهدى الروح والراحة للقلوب، استخرج من زهر البساتين، ما دفنته يد الكوانين، جاء يجر أذيال العرائس، وينشر أجنحة الطواويس. تبلج1 عن وجه بهج، وجو غنج2، وروض أرج3، وطير مزدوج، أقبل برائحة الجنان، وراحة الجنان، أسفر عن ظل سجسج4، وماء سلسل5 وروض مدبج6. جاء معيداً للأنس العازب، ومطلعاً للهو الغارب، تبلج عن نوره، وتفتح عن نوره، لاحت منهجه7، وراقت مباهجه.
مرحباً بالفصل الجامع لأحكام الفضل، زائر من القلوب قريب، وكله حسن وطيب، زائر لباسه حرير، وأنفاسه عبير، انكشفت غمة الشتاء الكالح8 عن غرة الربيع الضاحك، أذال الربيع أذيال الحرير، وعبرت أنفاسه عن العبير، تبدل الشباب من المشيب، وبرز في مطرفه القشيب9، عطر السهول والوعور، فعطل المسك والكافور، الزمان معتدل، ووجهه طلق مقتبل، وسحابه ماطر، وترابه عاطر، كأن الجنة قد نزلت إلى الأرض في أبهى حللها وأنفس حلاها، وما تشتهي الأنفس وتلذ الأعين منها، قد تبرجت الأرض للنظارة، وبرزت في معرض الحسن والنضارة، لبست الأرض قناعها الأخضر، ونضت شعارها الأغبر، حاك10 الربيع حلل الأزهار، وصاغ حلى الأنوار”.
سحر البلاغة وسر البراعة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1: بَلَجَ الصُّبْحُ : أضاءَ وأشْرَقَ.
2: غنج: الغين والنون والجيم كلمةٌ واحدة، الغُنْج، وهو الشِّكل والدَّلُّ.
3: الأرَجُ والأَريجُ: توهُّج ريح الطيبِ.
4: سجسج الأرض السَجْسَجُ، ليست بصُلبة ولا سهلة، ويومٌ سَجْسَجٌ: لا حَرٌّ مؤذٍ ولا قُرٌّ.
5: ماء سَلْسَلٌ: و سَلْسَالٌ و سُلاسِلٌ بالضم سهل الدخول في الحلق لعذوبته وصفائه.
6: دبج الدال والباء والجيم أصلٌ واحد يدلُّ على شيءٍ ذي صفحةٍ حَسَنَةٍ.
7: منهجه: طريقه الواضح.
8: كلح الكاف واللام والحاء أصلٌ يدلُّ على عُبوس في الوجه.
9: القَشِيب: الجديد من الثِّياب وغيرِها.
10: حاكَ الثوب يَحوكُهُ حَوْكاً وحِيَاكَةً: نسجَه فهو حائِكٌ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *