واحة الأدب

معلقة زهير بن أبي سُلمى
يتميز شعر زهير عن باقي الشعر الجاهلي بميزتين عظيمتين، قدمه لأجلهما عمر ابن الخطاب رضي الله عنه على سائر الشعراء، الأولى حسن نسج الكلام، والتأني في ترتيبه وتنقيحه، فكان ينظم القصيدة في أربعة أشهر، وينقحها في أربعة أشهر، ويعرضها على ذوي الخبرة أربعة أشهر، ثم يرسلها بعد أن أكملت الحول، ولهذا سميت قصائده بالحوليات. والثانية الحكمة النابعة من رجاحة عقل زهير، ورصانة فكره، واستفادته من التجارب.
مطلع المعلقة:
أمِنْ أُمّ أوْفَى دِمْنَةٌ لم تَكَلّمِ … بِحَوْمَانَةِ الدّرّاجِ فالْمُتَثَلَّمِ
وَدَارٌ لَهَا بالرّقْمَتَينِ كأنّها … مراجيعُ وشْمٍ في نَواشِرِ مِعْصَمِ
بها العِينُ والأَرْآم يَمشينَ خِلْفَة … وأطْلاؤهَا يَنْهَضْنَ من كل مِجْثَمِ
وقفْتُ بها من بعدِ عشرِينَ حِجَّةً … فلأيًا عَرَفْتُ الدّار بَعْدَ تَوهمِ
أثافِيَّ سُفْعًا فِي مُعَرَّسِ مِرْجَلٍ … وَنُؤيًا كجِذْم الحوْضِ لم يتثلَّمِ
فَلَمّا عَرَفْتُ الدَّارَ قلتُ لِرَبْعِهَا: … أَلَا انْعَمْ صباحًا أيها الرَّبع واسلَمِ

وبعد هذا الوقوف المعهود من شعراء الجاهلية يتغزل ما شاء بنسوة ذلك الحي ويصف حلهن وترحالهن ثم ينتقل إلى مدح هرم بن سنان والحارث بن عوف لإتمامهما الصلح بين عبس وذبيان وتحملهما أعباء ديات القتلى، فكانت لهما اليد الكريمة في وقف نزيف الحرب في مجتمع تشتعل فيه الحرب لأتفه الأسباب ثم يسمع فيها كل شيء إلا صوت الحكمة. قال:

فَأَقْسَمْتُ بالبَيْتِ الذي طافَ حوْلَهُ … رِجالٌ بَنَوْهُ من قُرَيشٍ وَجُرْهُمِ
يَمينًا لَنِعْمَ السّيّدانِ وُجِدْتُمَا … على كلّ حالٍ مِنْ سَحيلٍ وَمُبْرَمِ
تَدَارَكتُما عَبْسًا وَذُبيان بَعْدَمَا … تَفَانَوا وَدَقّوا بَينَهم عطرَ مَنشمِ
وقد قلتما: إنْ نُدْرِك السّلمَ وَاسعًا … بمالٍ وَمَعْروفٍ من القول نَسلمِ
فأَصْبَحْتُمَا منها عَلَى خَيرِ مَوْطِنٍ … بَعيدَينِ فيها مِنْ عُقُوقٍ وَمَأثَمِ
عَظيمَين فِي عُلْيا مَعَدٍّ هديتُما … وَمَنْ يَسْتَبِحْ كَنْزًا مِنَ الْمَجْدِ يعظُمِ

ثم ينتقل إلى ذم الحرب ومن كان سببا في اشتعال فتيلها، وفي ثنايا كلامه ما يدل على إيمانه بالبعث، يقول:
ألا أَبْلِغِ الأحْلَافَ عني رِسَالَةً … وَذُبْيانَ هل أقسَمتمُ كلَّ مُقسَمِ
فَلا تَكْتُمُنّ اللهَ مَا فِي نفوسِكُم … لِيَخْفى ومَهما يُكتمِ اللهُ يَعْلَمِ
يُؤخَّر فيُوضَع فِي كِتَابٍ فَيُدّخَر … لِيَومِ الْحسابِ أو يُعَجَّلْ فَيُنقَمِ
وَمَا الْحَرْبُ إلّا مَا علمتمْ وَذُقتُم … وَما هوَ عَنها بالْحَديثِ الْمُرَجَّمِ
مَتى تَبْعَثُوها تَبْعَثُوها ذَميمَةٌ … وتَضْرَ إذا ضَرّيْتُمُوها فتَضْرَمِ
فَتَعْرُكُكُم عرْكَ الرَّحى بثِفالها … وَتَلْقَحْ كِشافًا ثُمّ تُنْتَجْ فَتُتْئِمِ
فَتُنْتِج لَكُمْ غلْمانَ أشأمَ كلّهمْ … كَأَحْمَرِ عادٍ ثُمّ تُرضِع فَتَفْطِمِ
فَتُغْلِل لكم مَا لا تُغِلّ لأَهْلِها … قُرىً بالعراقِ من قَفِيزٍ وَدِرْهَمِ
لَعَمْري لَنِعْمَ الْحَيّ جَرّ عليهِمُ … بما لا يُؤاتيهمْ حُصَينُ بن ضَمضَمِ
ثم يختم بسرد حكم استحق بها لقب حكيم الشعراء الجاهليين فيقول:
وَمَنْ لَمْ يُصانعْ فِي أُمُورٍ كَثيرةٍ … يُضَرَّسْ بأنْيابٍ ويُوطَأ بِمَنْسِمِ
وَمَنْ يجعلِ المعرُوفَ من دونِ عِرْضِهِ … يَفِرْهُ وَمَنْ لا يَتَّقِ الشّتمَ يُشْتَمِ
وَمَنْ يَكُ ذَا فَضْلٍ فَيَبْخَلْ بفضْلِهِ … على قَوْمِهِ يُسْتَغنَ عنهُ وَيُذْمَمِ
وَمَن يُوفِ لا يُذَمَم وَمَن يُهْدَ قلبُه … إلى مُطمَئِنّ البِرّ لا يَتَجَمْجَمِ
وَمَنْ هَابَ أسبابَ الْمَنايا يَنَلْنَهُ … وإنْ يَرْقَ أَسبابَ السَّماءِ بِسُلَّمِ
وَمَن يجعَلِ الْمَعرُوفَ فِي غَيرِ أهلِهِ … يَكُنْ حَمْدُهُ ذَمًّا علَيْهِ وَيَنْدَمِ
وَمَن يَعْصِ أطرَافَ الزِّجاجِ فَإِنَّهُ … يُطيعُ العَوَالي رُكّبَتْ كلَّ لَهْذَمِ
وَمَنْ لَمْ يَذُدْ عَنْ حَوْضِهِ بِسِلاحِهِ … يُهَدَّم وَمَن لا يظلِمِ النّاسَ يُظْلَمِ
وَمَن يغترِبْ يَحْسِبْ عدُوًّا صَديقَهُ … وَمَنْ لَمْ يُكَرِّمْ نَفْسَهُ لَمْ يكرَّمِ
وَمَهْمَا تكنْ عند امْرِئٍ من خَلِيقَةٍ … وَإِنْ خَالها تَخْفَى على النَّاسِ تُعْلَمِ
وكائنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ … زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ
لسانُ الفتى نصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤادُهُ … فَلَمْ يَبْقَ إلّا صُورَةُ اللَّحْمِ والدَّمِ
وَإنّ سَفاهَ الشَّيخِ لا حِلْمَ بَعْدَهُ … وإنّ الفَتَى بَعدَ السّفَاهَةِ يَحْلُمِ
سَألْنا فَأَعْطَيْتُمْ وَعُدْنا فَعُدْتُمُ … وَمَن أكثرَ التسآلَ يوْمًا سَيُحْرَمِ

وهكذا جاءت معلقة زهير جوهرة فريدة بين قصائد عصرها برصانة أسلوبها ونبل مضمونها.

سلسلة أشهر القصائد
سحر البيان

يتربص بالمتعلم آفتان الحسد لأقرانه والتكبر على من دونه ولذلك قلت في ثنايا وصية لطلاب العلم:
وخذوا التواضع كالنبي وصحبه … هو زينه لأولي النهى صوان
ودعوا التحاسد للئام فإنه … شؤم على أصحابه وهوان
رحم الإله معاشرا زكاهم الـ … إسلام والإيمان والإحسان
ووقف الأحنف على قبر الحارث بن معاوية. فقال: رحمك الله كنت لا تحقر ضعيفاً. ولا تحسد شريفاً.
وإليك أخي القارئ في هذا العدد بعض ما أورده الأدباء في ذم الحسد:
الحسود مسيء الأدب مع ربه:
يا حاسداً لي على نعمتي … أتدري على من أسأت الأدب
أسأت على الله في حكمه … لأنك لم ترض لي ما وهب
فأخزاك ربي بأن زادني … وسد عليك وجوه الطلب
وجوب الصبر على الحاسد:
اِصبر على كيد الحسو … د فإن صبرك قاتله
كالنار تأكل بعضها … إن لم تجد ما تأكله
حال الحسود داع إلى الشفقة عليه:
إِنّي لأَرحَم حاسِديَّ لِحَرِ ما … ضَمَّت صُدورُهُم مِنَ الأَوغارِ
نَظَروا صَنيعَ اللَهِ بي فَعُيونُهُم … في جَنَّةٍ وَقُلوبهم في نارِ
الحذر من الحاسد أكثر من العدو:
جاملْ عدوَّكَ ما استطعتَ فإنهُ … بالرِفْقِ يُطْمَعُ في صلاح الفاسدِ
واحذرْ حسودَك ما استطعتَ فإنه … إن نِمْتَ عنه فليسَ عنك براقدِ
إن الحسودَ وإن أراكَ توَدُّداً … منه أضرُّ من العدوِّ الحاقدِ
ولَربَّما رَضِيَ العدوُّ إِذا رأى….منك الجميلَ فصار غيرَ معاندِ
ورِضا الحسودِ زوالُ نعمتِكَ التي … أُوتِيتَها من طَارفٍ أو تالدِ
فاصْبِرْ على غَيظِ الحسودِ فنارُهُ … ترمي حشاهُ بالعذابِ الخالدِ
أوما رأيتَ النارَ تأكلُ نفسها … حتى تعودَ إِلى الرَّمادِ الهامدِ
تضفو على المحسود نعمة ربِّهِ … ويذوبُ من كَمَدٍ فُؤادُ الحاسدِ
الكرام تحسد:
إِنَّ العَرانينَ تَلقاها مُحَسَّدَةً … وَلا تَرى لِلِئام الناسِ حُسّادا
انتفاع المحسود:
وَإِذا أَرادَ اللَهُ نَشرَ فَضيلَةٍ … طُوِيَت أَتاحَ لَها لِسانَ حَسودِ
لَولا اِشتِعالُ النارِ فيما جاوَرَت … ما كانَ يُعرَفُ طيبُ عَرفِ العودِ

وتلك الأمثال
في الأمثال السائرة: “ماذا يصنع الحاسد مع الرازق” أي أن الحسد لا يرد قدر الرازق وهو الله سبحانه وتعالى، فليس له إلا الحسد وعناؤه.
وفي مجمع الأمثال للميداني: “ليس للحاسد إلا ما حسد” أي لا يحصل على شيء إلا على الحسد.
فالحاسد يستحق الرثاء على نفسه والشفقة عليه مما ألم به، والأحرى بالمحسودين أن يعفوا عن الحاسدين، كما أمر بذلك رب العالمين حيث يقول: {فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللهُ بِأَمْرِهِ}.
وقال معن بن زائدة:
إِنّي حُسِدتُ فَزادَ اللَهُ في حَسَدي … لا عاشَ مَن عاشَ يَوماً غَيرَ مَحسودِ
ما يُحسَدُ المَرءُ إِلاَّ مِن فَضائِلِهِ … بِالعِلمِ وَالظَرفِ أَو بِالبَأسِ وَالجودِ
وفي أمثال العرب الحسد داء الجسد، والحسد داء لا يبرء، والحسد داعية النكد، والحسد مطية التعب، وقيل الحسود فقير وعند الله حقير، والحسود لايسود، وقيل لاراحة لحسود، وصحة الجسد من قلة الحسد، وفي الذكر الحكيم {أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَآءَاتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ ءَاتَيْنَآ ءَالَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَءَاتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا}. (من صيد الأفكار في الأدب والأخلاق والحكم والأمثال للقاضي حسين بن محمد المهدي).

فوائد
ترتيب البكاء
إذا تهيأ الرجل للبكاء، قيل: أجهش.
فإذا امتلأت عينه دموعا، قيل: أغرورقت عينه، وترقرقت.
فإذا سالت، قيل: دمعت، وهمعت.
فإذا كثرت دموعه، قيل: همت.
فإن كان لبكائه صوت، قيل نحب ونشج.
فإذا صاح مع بكائه، قيل: أعول.
قال سلم الخاسر:
أتتني تؤنّبني في البكاء … فأهلا بها، وبتأنيبها!
تقول، وفي قولها حشمة … أتبكى بعين تراني بها
فقلت: إذا استحسنت غيركم … أمرت الدّموع بتأديبها.
( من نهاية الأرب)

فسحة الواحة
– دخل أعرابي الكوفة، فقصد تماراً، فقال له:
رأيتك في النوم أعطيتني … قواصر من تمرك البارحة
فقلت لصبياننا: أبشروا … برؤيا رأيت لكم صالحه
فأم العيال وصبيانها … قلوبهم نحوها طامحه
فقل لي: نعم؛ إنها حلوة … ودع عنك: لا؛ إنها مالحه.
فدفع إليه قوصرة، وقال له: لا تعد ترى مثل هذه الرؤيا مرة أخرى.
– وخرج المهدي يتصيد، ومعه علي بن سليمان، فسنح لهما قطيع من ظباء، فأرسلت الكلاب، وأجريت الخيل، فرمى المهدي بسهم، فصرع ظبياً، ورمى علي بن سليمان سهماً، فصرع كلباً، فقال أبو دلامة:
قد رمى المهدي ظبياً … شق بالسهم فؤاده
وعلي بن سليمان، … رمى كلباً، فصاده
فهنيئاً لهما، كل … امرئٍ يأكل زاده فض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *