لحظات مع ابن مالك

كان ابن مالك أحدى الشعل العلمية التي ظهرت في العصر الموحدي، وبرزت في علوم اللغة خاصة، ابتدأت بابن مضاء القرطبي، وتوسطها أبو موسى الجزولي، وابن معط الزواوي تلميذه، وانتهت بابن مالك، فابن أبي الربيع الإشبيلي.
لقد هاجر ابن مالك عن وطنه، بعدما شاهد الحال الذي انتهى إليه الأندلس، وقد مني بموقعة العقاب المشؤومة التي دارت رحاها على الموحدين قرب مدينة “جيان”، وهو في سن التاسعة أو دون ذلك، فغادر وطنه، عالما من العلماء وفقيها مالكيا، كما يذكر أصحاب التراجم، وانتقل إلى الشام التي كانت آنذاك تجذب نحوها رجال المغرب والأندلس، من مثل ابن معط وابن عبدون اللذين كان لهما شأن مع ابن مالك كما سيأتي.
وكان ابن مالك يمثل الفكر المتحرر، فهو في نحوه يخرج عن مدارس البصريين والكوفيين ويجتهد حينما يرى ذلك حتما لازما، وهو في مذهبه الفقهي يتخلى عنه، وينتقل إلى المذهب الشافعي، حينما رأى ذلك واعتقده فكان كالشافعي المتحرر من مذهب إلى مذهب، وكابن حزم كذلك ينتقل من مذهب إلى آخر، ولكنهم جميعا، لا ينتقلون إلا والرأي أملى عليهم هذا الانتقال والشخصية الذاتية المكتملة قد تحولت بهم من مجرى إلى غيره، كل ما هنالك أن الشافعي وابن حزم انتهيا إلى مذهب استقلا به، بينما ابن مالك لم يكن مؤهلا لهذا الاستقلال، فانتهى عند الاختيار دون الابتكار.
وعلى كل حال فيهمنا التحرر في اللغة والنحو، وهو ما نعنيه من ابن مالك، وما عناه هو كذلك، ولم يدع غيره، مطلقا..ولم يكن ابن مالك من أولئك المكثرين من الأخذ عن الشيوخ، ففي الأندلس خاصة لا نعرف ممن أخذ عنهم فيها، إلا رجلا اشتهر بالقراءات ولم يشتهر بالنحو، وإن كان هذا شديد الاتصال بها، وهو ثابت بن خيار أو ابن حيان، أما الذين أخذ عنهم بالمشرق فلا يتعدون ثلاثة، أحدهم أندلسي الأصل، وهو ابن عبدون السالف الذكر، واثنان مشرقيان، هما ابن يعيش وابن الحاجب.
ويبدو أن ابن مالك، لم يكن من تلاميذ هؤلاء بالمعنى الدقيق، وكل ما هنالك أنه أخذ عنهم بعض المسائل، ولهذا نجده ينعت بعضهم، وهو ابن الحاجب، بكون هذا قاصرا في النحو وأنه لم يأخذه عن المبرزين فيه.
وعليه يكون أبو حيان على حق حينما يدعي أن ابن مالك لم يكن له من الشيوخ من يعتد بهم، وإن كان الناس قد انتقدوا ذلك عليه، ومن أوائلهم ابن رشد السبتي.
لقد كان ابن مالك كثير القراءة عظيم الحفظ، فهو مكب على هذه القراءة، حتى ولو كان في نزهة مع أصحابه، وهو أعجوبة في حفظه، لا ينقطع عنه إلا بانقطاعه عن هذه الدار.. وهو مع هذا وذاك منقاد إليه النظم مطواع له، فينظم في سؤال يسأله، كمنظومته “لامية الأفعال” مجيبا صاحبه في الحين ودون أن يفترق عنه.
ويعتني بإنتاج معاصريه، فيشرح الجزولية، بعدما يدرسها ويتفهم مغازيها، ويقرأ الألفية المعطية، فيحذو حذوها، ويعترف بالفضل لصاحبها، ويؤلف وينظم، ثم يعود إلى ما ألفه أو نظمه فيشرحه.
وقد عدت تآليفه بالعشرات وقاربت الأربعين، نظمها بعضهم كما في “بغية الوعاة”، واهتم بذكرها أصحاب التراجم والتواريخ العربية والتركية، ومن هذه الأخيرة كتاب “أندلس تاريخي” المؤلف للسلطان العثماني عبد المجيد الأول، والمنشور ما بين 1279 و1280 هـ.
ومن الغريب أن يذكر في هذا الكتاب، ضمن مؤلفاته مؤلف يحمل اسم “ألف ليلة وليلة”، وسنقف عند هذا بعد..لقد حظي ابن مالك في حياته بكثير من الإعظام والإجلال، وهو كل ما حظي به في حياته، أما بعد الممات فطغا ذكره على غيره، ونسخ بكتبه كل آثاره، سواء منها ما كان بالمشرق وما كان بالمغرب، ففي المشرق هذه الشروح للألفية بالخصوص صارت عمدة النحاة وعلى رأيهم ابن هشام بكتابه أوضح المسالك، وفي المغرب هذا المكودي يدرس “الكتاب” لسيبويه، بمدرسة العطارين، فيحضر درسه طالب بربري يحمل الألفية وعليها شرحان من المشرق، لابنه والمرادي، فلا ينظر إليها المكودي، حتى تبهره فيسرع إلى وزير الوقت ويطلعه على هذا الكنز فيشير عليه هذا بشرح الألفية، فيشرحها شرحين، ويكب عليها، فيكون آخر عهده بالكتاب لسيبويه بل يكون آخر عهد المغرب به، كما كان آخر عهد المشرق به.
ومن الغريب أيضا، أن يكون قاضي القضاة بدمشق ومفتيها، ابن خلكان من هؤلاء المعظمين لابن مالك والذين كانوا في بعض الأحيان يأخذون بيده فيصحبونه –وقد أم بهم في “العادلية”- إلى بيته ثم يرجع تعظيما له، ومع هذا لم يترجم له في الوفيات، وأحسن من ترجمه السيوطي ولم يذكر أحد أصحاب التراجم العربية، له “ألف ليلة وليلة” فالغالب أن المترجم التركي التبست عليه الألفية بذلك أو أنه ربما أطلع على “ألف ليلة وليلة” أخرى، لا نعرفها مطلقا، فبالأحرى أن نعرفها لابن مالك، الذي لم يكن هذا الميدان من ميادينه، إن كان الذي فيها هو ما في “ألف ليلة وليلة” الشهيرة من موضوع…
ومهما يكن فإن ابن مالك كان حظه من الدنيا قليلا، ولهذا قيل فيه: “خرج من الدنيا ولم يتعلق بأعراضها ولا قرطس سهمه في أغراضها”، بل يقال إنه لم يتمتع ببرور أولاده جميعا، فكان بدر الدين ابنه من المعترضين عليه، حتى قالوا إنه عناه مذكرا إياه بالبنوة في البيت من ألفيته:
نحو له علىّ ألف عرفا والثان كابني أنت حقا صرفا
ولكن هذا بعيد، إذ علمنا أنه ألف ألفيته لابنه تقي الدين أسد، فيكون إذن هو المتبادر في الخطاب، وكان أسد هذا مرضيا عنه محبوبا عند والده، ولذلك ألف له المقدمة التي نسبها إليه باسم “الأسدية”، ثم إننا نستبعد أن يكون اختلاف النظر في المسائل العلمية مدعاة للعقوق أو عدم البرور، وإن كان هذا يختلف باختلاف الأزمان والأشخاص.
ولا يفوتنا بعد هذا أن نذكر أن ابن مالك تأثر ببعض نحاة المغاربة، فقد شرح الجزولية للإمام الجزولي المراكشي، كما تعقب تلميذه ابن معط الزواوي الجزولي، ولا يكون هذا التعقب بدون ما يكون له أو به تأثر، وهو نفسه يعترف بذلك فيقول:
وهو بسبق حائز تفضيلا مستوجب ثنائي الجميلا
وفيما يتصل بمنظوماته، فقد كانت له منظومات قصار في بعض المسائل، لم تذكر بين آثاره العديدة التي وردت في كتب التراجم، ومن هذه المنظومات القصار، منظومة له، في الفعل المعتل الفاء واللام، في حالة الأمر، وهي:
إنـي أقـول لمـن ترجـى شفاعتـه *** ق المستجيـر قيـاه قـوه قـي قيـن
وإن صرفت لوال شغـل آخـر قـل *** ل شغـل هـذا ليـاه لـوه لـي ليـن
وإن وشى ثوب غيري قلت في ضجر *** ش الثوب ويك شياه شوه شي شيـن
وقـل لقاتـل إنسـان علـى خـطـأ *** د من قتلـت ديـاه دوه دي ديـن
وإن هموا لم يروا رايى أقول لهـم *** ر الرأي ويك ريـاه روه ري ريـن
وإن هموا لم يعوا قولي أقـول لهـم *** ع القول مني عيـاه عـوه عـي عيـن
وإن أمـرت بـوأي للمحـب فقـل *** إ مـن تحـب إيــاه أوه إي إيــن
وإن أردت الونى وهو الفتور فقل *** ن يـا خليلـي نيـاه نـوه نـي نيـن
وإن أبى أن يفي بالعهد قلـت لـه *** ف يا فـلان فيـاه فـوه فـي فيـن
وقل لساكن في قلبي إن سواك بـه *** ج القلب من جياه جـوه جـي جيـن
وأخيرا فقد عد ابن مالك من البؤساء، ولهذا ترجمه الشهاب أحمد بن علي الدلجي، بين هؤلاء في كتابه “الفلاكة والمفلكون” كما ترجمه معاصر من المصريين، في كتاب سماه “البؤساء”، لا أذكر اسم المؤلف.
توفي ابن مالك سنة 672هـ، أي في السنة التي ولد فيها ابن آجروم شيخ النحاة في العصر المريني، ورثاه بعضهم بشعر ذكر بعضه صاحب البغية، كما ذكر آخر ابن رشيد في رحلته، رحم الله الجميع ورضي عنهم.
دعوة الحق العدد السنة محمد ابن تاويت التطواني
اختصار أحمد السالمي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *