أما زكي قنصل فهو من طينة المعري مولدا، سوري من يبرود ازداد سنة 1916، لم يحصل على أي مؤهلات أو درجات علمية، هاجر إلى أمريكا وانضم إلى عصبة الأدب المهجريين، من دواوينه الشعرية: شظايا 1942، سعاد 1953، نور ونار 1971، ألوان وألحان 1978، عطش وجوع، في متاهات الطريق 1984، ديوان زكي قنصل الجزء الأول 1986.
له مسرحيتان نثريتان هما: الثورة السورية، وتحت سماء الأندلس. حصل على جائزة ابن زيدون من إسبانيا. وجائزة جبران الدولية من أستراليا. وجائزة إذاعة ب.ب.س العربية في لندن، وجائزة مجلة الثقافة الدمشقية من سورية، هاجر إلى البرازيل سنة 1929م، ثم إلى الأرجنتين، وتوفي سنة 1994. أصدر في حياته عددا من الدواوين الشعرية، وبعد وفاته نشر عبد المقصود محمد سعيد خوجة الأعمال الشعرية الكاملة في ثلاثة مجلدات.
ومن أشعاره الرائعة الرائقة:
يا من يبذر في الملاهي ماله *** فرحاً ويقبض كفّه عن جائع
احسب حسابك للزمان فربما *** دارت حوادثه بأشأم طالع
يومان هذا الدهر: يوم ضاحك *** بالسعد مرتبط بيوم دامـع
لا يخدعنك أن مالك واسـع *** كم هان قبلك ذو ثراء واسع
ولقد تمد غدا يمينـك راجيا *** إحسـان هذا الجائع المتواضع
ومن ذلك قوله:
بين التعصب والتدين فجوة *** لا تنتهي وحواجز لا تغلبُ
هذا هو الغيث الذي يحيي ولا *** يؤذي وذاك هو السحاب الخُلّب
الدين نور والتعصب ظلمة *** أيَخاف نورَ الشمس إلا المذنبُ
من كان يملي بالهراوة رأيه *** لم يلق في جلسائه من يكتب
يا صاح لا تصل الضلالة بالهدى *** إنّ التقي الحق لا يتعصب
ومنها قصيدة الكادح التي تحدث فيها عن أتعاب الطبقة الكادحة، والتي هي ضمن ديوان شظايا، ومطلعها:
يبني القصور وكوخه خرب ساءت حياة كلها تعب
وهي قصيدة جميلة لولا ما شابها من أبيات، خرجت من أوسع أبواب الأدب، لترفع لواء معارضة القدر، وضرب عقيدة الرزق، وأصل تباين الخلق فيه، الذي لا ينكره المنطق البشري. والقصيدة ضمن مقرر اللغة العربية للسنة الثالثة إعدادي، (المختار). يستشكل فيها، ويعترض على عدم مساواة الناس في الرزق، وهي قوله:
يا رب عفوك إن كفرتُ فما ***** ترقى إلى ملكوتك الـريبُ
أو ليس يجمعه بسيده ***** نسب من الصلصال أو حسبُ؟
فعلام تشتاق الريالَ يدٌ ***** ويد تَراكم حولها الذهبُ؟
وعلام يغصب حق مجتهد ***** ليفوز باللذات مغتصب؟
وبالتحقيق في هذه الأبيات، نجدها تعلن وبصراحة أصلها المعري، في أبياته التي أوردها اعتراضا على الشرع المقدس، فالمعري اعترض على حد السرقة وعدم مساواة اليد السارقة في قيمتها وبين اليد المقطوعة خطأً، و زكي يعترض على مبدإ اختلاف الناس في الرزق، الذي قدره الحكيم العليم، وإذا كان المعري قد أخر الاعتراض حيث يقول:
تناقض مالنا إلا السكوت له وأن نعوذ بربنا من النيران
فإن زكيا قد ابتدأ به، وكأنه أحس بريح الذنب والجرم، فسبق الاعتذار حيث لا ينفع، معلنا بعلم أن ما سيقوله كفر، لا ينبغي أن يقال:
يارب عفوك إن كفرت فما ترقى إلى ملكوتك الريب
فالمسلم الموقن الذي يعرف حق ربه سبحانه، وأنه لا يرقى إليه الشك في شرعه وحكمه، وقضائه وقدره، سبحانه وتعالى، لا يجترئ على قول يغضب فيه الرب، أو كلام يعترض عليه فيه وهو الذي يَسأل ولا يُسأل، ولنستذكر جميعا موقف الصحابة رضي الله عنهم من الوساوس التي تلقى إليهم من الشيطان، والتي يحاول أن يشككهم بها في دينهم، فقد روى عبد الرزاق في مصنفه أن رجلا من الأنصار جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا نبي الله أرأيت أشياء يوسوس بها الشيطان في صدورنا؛ لَأن يَخر أحدنا من الثُّريا أحب إليه من أن يبوح به. قال النبي صلى الله عليه وسلم: أَوَ قَد وجدتم ذلك؟ إن الشيطان يريد العبد فيما دون ذلك فإذا عُصِم منه ألقاه فيما هنالك؛ وذلك صريح الإيمان.
فهذا موقف المسلم حتى ولو قذف الشيطان في روعه شيئا من الشك والوساوس، أما أن يعلم خطأه ثم يصر على ذكره وإلقائه إلى الناس، وتخليده فيهم شعرا، فإن هذا من أنكر المنكرات.
ونسي زكي قول الله سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ}. أي جعلكم متفاوتين فيه، فوسع على بعض عباده حتى جعل له من الرزق ما يكفي ألوفاً مؤلفة من بني آدم، وضيقه على بعض عباده حتى صار لا يجد القوت إلاّ بسؤال الناس والتكفف لهم، وذلك لحكمة بالغة تقصر عقول العباد عن تعقلها والاطلاع على حقيقة أسبابها، وكما جعل التفاوت بين عباده في المال، جعله بينهم في العقل والعلم والفهم، وقوّة البدن وضعفه، والحسن والقبح، والصحة والسقم، وغير ذلك من الأحوال، ولو لم يكن الأمر كذلك لما استقامت الحياة.
فهب أن الناس كلهم أغنياء، فكيف سيرضى أحدهم أن يشتغل عند أحد آخر، ولأخذته الأنفة من كثير من الأعمال الممتهنة، والتي لابد للإنسان منها، وذلك بداية اختلال العالم، وضياع مصالح الناس.
ويقول الأديب والمفسر التونسي الطاهر بن عاشور: ولما كان الرّزق حاصلاً لكل موجود بُني الاستدلال على التّفاوت فيه، ووجهه على التصرّف القاهر أن الرزق حاصل لِجميع الخلق وأن تفاضل الناس فيه غير جار على رغباتهم ولا على استحقاقهم؛ فقد تجد أكيس الناس وأجودهم عقلاً وفهماً مقتّراً عليه في الرزق، وبضدّه ترى أجهل الناس وأقلّهم تدبيراً موسّعاً عليه في الرزق، وكلا الرجلين قد حصل له ما حصل قهراً عليه، فالمقتّر عليه لا يدري أسباب التّقتير، والموسّع عليه لا يدري أسباب تيسير رزقه، ذلك لأن الأسباب كثيرة متوالدة ومتسلسلة ومتوغّلة في الخفاء حتى يظن أن أسباب الأمرين مفقودة وما هي بمفقودة ولكنها غير محاط بها. ومما ينسب إلى الشافعي:
ومن الدّليل على القضاء وكونه … بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
ولذلك أسند التفضيل في الرزق إلى الله تعالى لأن أسبابه خارجة عن إحاطة عقول البشر، والحكيم لا يستفزّه ذلك بعكس قول ابن الراوندي:
كم عاقل عاقل أعيَت مذاهبه … وجاهل جاهل تلقاه مرزوقا
هذا الذي ترك الأوهام حائرة … وصيّر العالم النّحرير زنديقا
وهذا الحكم دلّ على ضعف قائله في حقيقة العلم فكيف بالنّحريرية. اهـ
والظاهر أن زكيا ربما دب إليه فكر الاشتراكية، الذي انتشر في وقته في الدول العربية، ناهيك عن بلاد الغرب التي تعج بالجهل العميق بدين الإسلام، والآية صريحة في إبطال ذلك المذهب القائل: إنه لا يكون أحد أفضل من أحد في الزرق.
قال الشنقيطي: “وَلِلَّهِ فِي تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ حِكْمَةٌ؛ قَالَ تَعَالَى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا} [أي يسخّر بعضهم بعضا في أعماله وأشغاله]، وَقَالَ: {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ} [أي يضيق]، وَقَالَ: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ}، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدالة عَلَى أَنَّ تَفَاوُتَ النَّاسِ فِي الْأَرْزَاقِ وَالْحُظُوظِ سُنَّةٌ مِنْ سُنَنِ اللَّهِ السَّمَاوِيَّةِ الْكَوْنِيَّةِ الْقَدَرِيَّةِ، لَا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْأَرْضِ الْبَتَّةَ تَبْدِيلَهَا، وَلَا تَحْوِيلَهَا بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}.
وَبِذَلِكَ تَحَقَّقَ أَنَّ مَا يَتَذَرَّعُ بِهِ الْآنَ الْمَلَاحِدَةُ الْمُنْكِرُونَ لِوُجُودِ اللَّهِ وَلِجَمِيعِ النُّبُوَّاتِ وَالرَّسَائِلِ السَّمَاوِيَّةِ إِلَى ابْتِزَازِ ثَرَوَاتِ النَّاسِ وَنَزْعِ مِلْكِهِمِ الْخَاصِّ عَنْ أَمْلَاكِهِمْ، بِدَعْوَى الْمُسَاوَاةِ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَعَايِشِهِمْ، أَمْرٌ بَاطِلٌ لَا يُمْكِنُ بِحَالٍ مِنَ الْأَحْوَالِ، مَعَ أَنَّهُمْ لَا يَقْصِدُونَ ذَلِكَ الَّذِي يَزْعُمُونَ، وَإِنَّمَا يَقْصِدُونَ اسْتِئْثَارَهُمْ بِأَمْلَاكِ جَمِيعِ النَّاسِ؛ لِيَنْعَمُوا بِهَا وَيَتَصَرَّفُوا فِيهَا كَيْفَ شَاءُوا تَحْتَ سِتَارٍ كَثِيفٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَذِبِ وَالْغُرُورِ وَالْخِدَاعِ، كَمَا يَتَحَقُّقُهُ كُلُّ عَاقِلٍ مُطَّلِعٍ عَلَى سِيرَتِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ مَعَ الْمُجْتَمَعِ فِي بِلَادِهِمْ.
فَالطُّغْمَةُ الْقَلِيلَةُ الْحَاكِمَةُ وَمَنْ يَنْضَمُّ إِلَيْهَا هُمُ الْمُتَمَتِّعُونَ بِجَمِيعِ خَيْرَاتِ الْبِلَادِ وَغَيْرُهُمْ مِنْ عَامَّةِ الشَّعْبِ مَحْرُومُونَ مِنْ كُلِّ خَيْرٍ، مَظْلُومُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى مَا كَسَبُوهُ بِأَيْدِيهِمْ، يُعْلَفُونَ بِبِطَاقَةٍ كَمَا تُعْلَفُ الْبِغَالُ وَالْحَمِيرُ.
وَقَدْ عَلِمَ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلا- فِي سَابِقِ عِلْمِهِ أَنَّهُ يَأْتِي نَاسٌ يَغْتَصِبُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِدَعْوَى أَنَّ هَذَا فَقِيرٌ، وَهَذَا غَنِيٌ، وَقَدْ نَهَى جَلَّ وَعَلا عَنِ اتِّبَاعِ الْهَوَى بِتِلْكَ الدَّعْوَى، وَأَوْعَدَ مَنْ لَمْ يَنْتَهِ عَنْ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا}.
وَالْحَقُّ أَنَّ الْأَرْزَاقَ قِسْمَةُ الْخَلاقِ، فَهُوَ أَرْأَفُ بِالْعِبَادِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَلَيْسَ فِي خَزَائِنِهِ مِنْ نَقْصٍ وَلَكِنَّهَا الْحِكْمَةُ لِمَصْلَحَةِ عِبَادِهِ، وَفِي الْحَدِيثِ الْقُدْسِيِّ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْفَقْرُ، وَلَوْ أَغْنَيْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ، وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي لَمَنْ يَصْلُحُ لَهُ الْغِنَى وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لَفَسَدَ حَالُهُ»، فَهُوَ سُبْحَانُهُ يُعْطِي بِقَدَرٍ، وَلَا يُمْسِكُ عَنْ قَتَرٍ.
وَيَكْفِي فِي هَذَا الْمَقَامِ سِيَاقُ الْآيَةِ فِي أُسْلُوبِهَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نَحْنُ قَسَمْنَا، وَهَذَا الضَّمِيرُ مَعْلُومٌ أَنَّهُ لِلتَّعْظِيمِ وَالتَّفْخِيمِ، وَمِثْلُهُ الضَّمِيرُ فِي «قَسَمْنَا»، فَلَا مَجَالَ لِتَدَخُّلِ الْمَخْلُوقِ، وَلَا مَكَانَ لِغَيْرِ اللَّهِ تَعَالَى فِي ذَلِكَ. وَالْقِسْمَةُ إِذَا كَانَتْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا تَقْوَى قُوَّةٌ فِي الْأَرْضِ عَلَى إِبْطَالِهَا، ثُمَّ إِنَّ وَاقِعَ الْحَيَاةِ يُؤَيِّدُ ذَلِكَ بَلْ وَيَتَوَقَّفُ عَلَيْهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}. اهـ
وللدكتور إبراهيم بن محمد البريكان كلام جميل في مبدإ الاختلاف: “الاختلاف في الغرائز والملكات الإنسانية أمر طبيعي في بني آدم نتيجة لاختلاف الطبائع والمشارب، قال تعالى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ}، وبناء على هذا الاختلاف الطبعي تبنى الحياة ويثرى الوجود بمعطيات الإنسان الهائلة المتجددة على مدى الأيام والشهور والسنين، قال تعالى: {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا}، وعلى أساس هذا النوع من الخلاف تعمر الحياة وتتنوع أنشطة الإنسان وبه تحصل مقومات الخلافة في الأرض وتسد حاجات الإنسان في مجالات حياته المختلفة.اهـ
ولو فكر زكي قنصل بعين عقله، لما خجل من هذا الكلام. هذا ضرب من النقد.
وأختم برائعة من روائعه عن لغة الضاد:
أُعلي لواءَكِ فوق كل لواء *** فلأَنْتِ خالدة وهُم لفناء
نفديكِ من عدوانهم بقلوبنا *** ويهون مهما جلّ كل فداءِ
يا بنتَ عدنان ارتعي في ظلنا *** لا يدخل الفجار غار حراء
ترعاك عين الله من شر، ومن *** خطر وعين الله خير وقاء
خسئت مكائد طغمة مرذولة *** تسعى لهدم صروحك الشماء
مجهولة الأنساب، إلا أنها *** معروفة بسفاسف الأهواء
مشبوهة الأهداف تكفر بالعلا *** وبما بنى الآباء للأبناء