مناظرة بين البر والبحر

قال (البر): يا صاحب الدَّر ومعدن الدُر، أطرقت رياضي ومزقت جسوري وأحواضي، وأغرقت جثتي ودخلت جنتي، وتلاطمت أمواجك على جنتي، وأكلت جزائري وجروفي، وأهلكت مرعى فصيلي وخروفي، وأهزلت ثوري وحملي وفرسي وجملي، وأجريت سفنك على أرض لم تجر عليها، ولم تمل طرف غرابها إليها، وغرست أوتادها على أوتاد الأرض، وعرست في مواطن النفل والفرض، وجعلت مجرى مراكبك في مجرى مراكبي، ومشى حوتك على بطنه في سعد أخبية مضاربي، وغاص ملاحك في ديار فرحي، وهاجرت من القرى إلى أم القرى، وحملت فلاحي أثقاله على القِرى، وقد تلقيتك من الجنادل بصدري، وحملتك إلى برزخك على ظهري، وقبلت أمواجك بثغري، وخلقت مقياسي فرحاً بقدومك إلى مصري، وقد حرت وعدلت وفعلت فلعلك تغيض ولا يكون ذهابك عن ذهاب بغيض، أو تفارق هذه الفجاج، وتختلط بالبحر العجاج، وإن لم تفعل شكوناك إلى من أنزلك من السماء، وأنعم بك علينا من خزائن الماء؟

إذا لـم تكـن ترحم بلاداً ولم تغث *** عباداً فمولاهم يغـــيث ويـــرحمُ
وإن صدرتْ منهم ذنوبٌ عظيمةٌ *** فعفو الذي أجراك يا بحر أعظمُ
نمدُّ إلــــيه أيـــدياً لـــــم نــمدّها *** إلى غيـــره والله بالحـــال أعلم
قال (البحر): يا بر يا ذا البرّ هكذا تخاطب ضيفك، وهو يخصب شتاءك وصيفك، وقد ساقني الله إلى أرضك الجرز1، ومعدن الدر والخرز لأبهج زرعها وخيلها، وأخرج أبها ونخيلها، وأكرم ساكنك، وأنزل البركة في أماكنك، وأثبت لك في قلب أهلك أحكام المحبة، وأنبت بك لهم في كل سنبلة مائة حبة، وأحييك حياة طيبة يبتهج بها عمرك الجديد ويتلو (كَذَلِكَ يُحْيِي اللّهُ الْمَوْتَىَ) [البقرة: 73] ألسنة العبيد، وأطهرك من الأوساخ، وأحمل إليك الإبليز2، فأطيبك به من عرق السباخ، وأنا هدية الله إلى مصرك وملك عصرك، القائم بنصرك، ولولا بركاتي عليك، ومسيري في كل مسرى إليك لكنت وادياً غير ذي زرع وصادياً غير ذي ضرع.
ســريتُ أنا مــاءُ الحياة فـلا أذى *** إذا ما حفظتُ الصحب فالمالُ هينُ
فكـن خضــراً يا بر واعلم بأنني *** إلى طينك الظــمآن بالــري أحسن
وأسـعى إليه مـــن بــلادٍ بعيــدةٍ *** وأحسن أجـري بالتي هي أحــسنُ
إذا طاف طوفاني بمقياسك الذي *** يــــسرُّ بإتيــــان الــوفاء ويعـــلنُ
فقـــم وتـلقـــّاه ببســـطتك التـــي *** لروضها فضـلٌ على الروض بينُ
ولعمري لقد تلطف (البر) في عتابه وأحسن، ودفع (البحر) في جوابه بالتي هي أحسن، وقد اصطلحا وهما بحمد الله أخوان متضافران، على عمارة بلاده، ونشر الثروة، ونمو الخيرات بين عباده، فالله تعالى يخصب مرعاهما ويحرسهما ويرعاهما.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1ـ الجرز بالتحريك: السنة الجدبة، يقال: سنة جرز، أي مجدبة و(قال الفراء في قوله تعالى: “أوْ لم يَرَوْا أنَّا نَسوقُ الماءَ إلى الأرضِ الجُرُزِ” قال: أن تكون الأرض لا نبات فيها، يقال: قد جرزت الأرض فهي مجروزة، جرزها الجراد والشاء والإبل).
2ـ وطِينُ الإبْليز بالكسر: طِينُ مِصر وهو ما يُعقبُه النِّيلُ بعدَ ذَهابِه عن وَجْهِ الأرض.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *