قراءة إسقاطية لقصيدة: أَحّن إلى مصر وما أنا من مصر للشاعر عبد الرحمن الدكّالي الصدّيقي أذ. مصطفى بن محمد متكل

لم يكن الشاعر المغربي عبد الرحمن الدكالي يدرك أن ما جادت به بنات فكره، وفاض به وحي قريحته، من توصيف معاناة العرب وتشريح مآسيهم، مع سلطة الاستبداد الغربي، وقهر الاستعمار الأجنبي، سيحكي واقعا آخر غير الواقع الذي حكاه، وسيعبّر عن تجربة أخرى غير التي ألهمته القريض.

ولم يضع -رحمه الله- في الحسبان والتقدير، أن ما عزمه منذ عقود من القصائد، وانطلق بها لسانه في منابر مراكش والرباط والقاهرة والحجاز، ستنطبق تمام الانطباق على عذبات وشكاة محاويج وفقراء عرب اليوم، بل تكاد تصرخ أنّاته وزفراته بالقول: إنما نفثتُ اللوعات والآهات، حسرة على أحوالكم، ونصرة لمظلومياتكم، وإيناسا لوحشتكم، التي أطبقت على حياتكم، حتى استحالت إلى دروب مظلمة، ومسالك بهيمة، زاد حلكتها وسوادها، ما تكابدون من صنوف الظلم والجور، وتقاسون من أنواع الكبت والبغي.
لقد كان الدكالي صادقا في نقل صورة المجتمع العربي كما هي في الواقع، ودقيقا في تحديد المجالات الحساسة التي تصنع وعيه، وتُحدد مساره، وتحكم على مصيره.
إن هذه المجالات والأحواز المفرطة في الأهمية والخطورة، إذا ما فقدت توازنها، أو ارتبكت أسسها، أو اختل نظامها، تزلزلت مقدّرات الأمة من الأصول، وتزعزعت مقوماتها من القواعد، وأوشك بنيانها على النقض والانهيار، لذلك وجب التحضيض على صرف عنان العناية إليها، وتخصيص مزيد من الحظوة والاهتمام بها، لأن ضمان استمرارها في الإثمار، متعلق بإيجاد علل استقرارها، وبعثِ سُبل ثباتها، وكفالةُ قيامها بالإنتاج، رهين بمعاهدتها بالرعاية، وكنّها بالصيانة، بل إن تأسيس مفاهيم الحضارة والارتقاء والنهضة، لا يتحقق إلا باستدامة أسباب هذه المحافظة، وتطريد بواعثها، وكل تفريط فيها أو إهمال لموجبات استبقائها، فإنه لاشك يؤذن بحدوث نقائض تلكم المعاني المقررة وأضدادها، وهي التخلف والظلم والتقهقر، وكلّها كما لا يخفى آفات مميتة، وعاهات مُشلّة، إذا استوطنت في الناس وشاعت بينهم، أخلدتهم إلى الأرض، وأقعستهم في آخر المراكب، وبثت فيهم روح اليأس والقنوط، وربما هيئت نفوسهم للثورة على الأوضاع، وأعدتها للانتفاض على الواقع.
وهذه المجالات هي: التعليم والأدب، الصحافة والرأي، الحقوق المدنية، العدالة الاجتماعية، العدل السلطاني.
فمتى روعيت هذه الكليات حق رعايتها، وقُدّرت حق قدرها، غنم الناس في العاجل حصادها، وشكروا في القريب، القيّمَ على إثمارها، وحمدوا آثارها بلا خلاف، ورضوا نتائجها بالاتفاق.
إن جرأة الشاعر الدكالي في انتقاد من تسلطوا على رقاب الأمة من المحتلين الأجانب، وأعوانهم المناوئين، لا يقل أهمية عن انتقاده -من طرف خفي وبطريق الإيماء- للعلاقات المهلهلة، والروابط الهشة، التي تربط حكام العرب بمحكوميهم، وتصل رؤساءها بمرؤوسيهم، والتي غالبا ما تكون مشدودة بخيط رقيق، يسهل انفلاته وانصرامه، مع أول هزة أو أضعف إشارة، لأنه مفتول بمعاني الحذر والخوف والتوجس.
لقد دلف الدكالي إلى الجامعة العربية حاملا معه آمال وشكاوى أهل المغرب، ليبثها على الحاكمين المصريين، استمالة لدعمهم والتفاتهم، وطلبا لعونهم ورفدهم، فأنشد فيهم قصيدة غاية في النظام، وآية في التعبير، بدأها بالتذكير بمصر العروبة، ومركزية أدوارها، وأياديها البيضاء على الأمة، وسوابق أفضالها ومننها ، ثم شرع في تعرية معاناة الشعوب العربية وآلامها مع المستعمرين أو المستبدين، وتكشيف مظاهر الخلل والارتباك المسيطرة على شؤونها الخاصة والعامة، فحملت قصيدته وجهين:
– الأول: ظاهري، وهو المراد أصالة: قصد به بيان استبداد قوى الاستعمار، واستحكامها في إرادات وخيرات الشعوب.
– الثاني: مبطّن، وهو المراد بالتبع: قصد به تجلية استعباد الحكام الظلمة للمقهورين من الضعفاء والمعذبين.
على أنه لا يظهر لنا من هذه الحيثية، كبير فرق بين الظاهر والباطن، ولا بين الأصالة والتبع، لأن الاستبداد والقهر، يبقى استبدادا وقهرا، بغض النظر عن فاعله أو ممارسه، وبصرف البحث عن جنسية مرتكبه، أو اسمه أو صفته، ألم يقولوا إن الصفات تصدق على موصوفاتها، والدالات على مدلولاتها، دونما اعتبار للأنواع والأجناس؟
لذلك نرى أن هذه القصيدة المختارة، أولى أن تُحمَل -ولو من باب التقصيد المتعسف- على أوضاع أمتنا الإسلامية اليوم، مادام الاستبداد مستمرا والقهر قائما، والنظام الحاكم في مصر مشمول بالضرورة والأولية بهذا الحمل والقصد، لأن أجلى مظاهر الظلم، وأظهر صور الفساد، متجسدة فيه في كل المناحي: الاجتماعية والفكرية والاقتصادية والحقوقية والسياسية.
لقد جعل الشاعر مصير أمتنا المنشود، بيد حكامها العادلين، المتلاحمين مع شعوبهم، والمنصتين لمآسيهم، والعاملين على تحقيق مطالبهم، وتلبية طموحاتهم، والشاعرين بوحدة مصيرهم ومسارهم، إذ العادلون والنّصفة وحدهم مؤهلون شرعا وعقلا وواقعا، لقيادة الأمة إلى شط الأمان، وضفة الخلاص، ويرى شاعرنا أن التجربة المغربية هي خير من جسّد مظاهر التلاحم بين الراعي والرعية، وخير من مثّل صور الاتفاق بين إرادة الحاكم وتغييب المحكوم، خاصة في مناشدتهما معا لمعاني الإصلاح الجاد، ومبادئ التغيير الهادف.
قصيدة الشاعر عبد الرحمن الدكالي الصديقي
أ‌- معالم عامة عن القصيدة
– وردت القصيدة ضمن ديوان الدكالي، المطبوع بالوراقة الوطنية بمراكش سنة 2002، بضبط وعناية الأستاذ أحمد متفكر، وذلك في الصفحتين 227/228 تحت عنوان : صوت المغرب في الجامعة العربية.
– وقعت في أبيات كثيرة، ضاع غالبيتُها، ولم يبق منها بحسب الأستاذ متفكر، سوى عشرون بيتا، وهي المثبتة في الديوان.
– عُقدت برويّ الراء المكسورة.
– رَكبت متن بحر الطويل.
– أُلقيت في رحاب الجامعة العربية بالقاهرة.
هذا وفي تقديري -وهو ما لم يذكره الأستاذ متفكر– أن رائية الدكالي، قد تكون محاكاة لقصيدة شاعر الحمراء، التي عزمها أيضا عن مصر، بث فيها إعجابه بها، وافتتانه بأهلها، ومطلعها :
أحنّ إلى مصر وما أنا من مصر ولكن طيْر القلب أعرَف بالوكر
ولأننا لا نملك دلائل ناهضة على المحاكاة، ولا تسعفنا سوى قرائن لا تصحح بمجموعها أصل الدعوى، كاتحاد الرويّ، والوزن، وتقارب الموضوع، فإن هذا التقدير يبقى في حيز التخمينات والإخالات، مثله مثل الاحتمالات الأخرى الواردة على هذا الإتحاد، وهي داخلة من جهة الوقوع في الممكنات العقلية والواقعية، وإن بدرجات متفاوتة وهي:
– 1 التناص: وهو قريب إلى المنطق، حقيق بالتصديق.
– 2 اتفاق الخواطر، و وقوع الحافر على الحافر، خاصة في المصراع الأول من البيت الأول، وهو وإن كان قريبا عقلا، فهو بعيد عادة.
– 3 المعارضة: وهي واردة، لكن بلا دليل مُصحّح.
ب‌- نص القصيدة
أحـن إلى مـصر وما أنـا من مصر *** ولـكنني أهـوى بها قـادة الفكر
أقمـتُ بـها وقـتا قصيرا وليتـني *** أقـمت بها حتى أوسـد في القـبر
فـما مصر إلا منـبر الشرق كلـه *** وما نِـيلها إلا بنَـيل المـنى يـجري
لها الله كم أسدت إلى العُرْب من يد *** تـردده في الـدهر ألسـنة الشـكر
وكم شـاد للتعليم فاروق من بـنى *** ليبقى مدى الأحقاب يذكر للفــخر
فيـا مـصر إنّـا أمـة عـربـية *** تقاسي صنوف الذل والبغي والجور
نعـذب إن قـلنا نـريد تـعلمـا *** ونحرم حـتى من صحـائف للنشر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *