أوصاف بليغة في البلاغات على ألسنة قوم من أهل الصناعات أحمد السالمي

ذكر الحُصري صاحب كتاب: “جمع الجواهر في الملح والنوادر” أن قوما من أهل البلاغات اجتمعوا، فوصف كل منهم بلاغاته من طريق صناعاته، فأتى ذلك بديعا في صياغته، فريدا في صناعته، بليغا في كلامه.

فـ”متى وُفِّق كاتبٌ في ألفاظه ونَسْقِ ألفاظه، فقد استقامت له الطريقة الأدبية، وجاء أسلوبه في الطبقة العالية من الكتابة. وأكثر كلام العرب يخرج على هذا الوجه، فتراه بليغاً في أدائه، رصيناً في ألفاظه، متيناً في عبارته، ولا طائل من المعنى وراء ذلك”. مصطفي صادق الرافعي في كتابه “على السفود،93”.
ولنتأمل توفيق هؤلاء الصناع في وصف الكلام بوصف استشفوه من صناعاتهم، فوافق أسلوبهم الطبقة العالية من الكتابة:
قال الجوهري: أحسن الكلام نظاماً ما ثقبته يد الفكرة، ونظمته الفطنة، ونضد1 جوهر معانيه في سموط ألفاظه، فاحتملته نحور الرواة.
وقال العطار: أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه؛ ففاح نسيم نشقه، وسطت2 رائحة عبقه؛ فتعلقت به الرواة، وتعطرت به السراة.
وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بكور3 الفكرة، وسبكته بمشاعل النظر، وخلصته من خبث الإطناب، فبرز بروز الإبريز4 في معنىً وجيز.
وقال الصيرفي: خير الكلام ما نفدته يد البصيرة، واجتلته عين الروية، ووزنته بمعيار الفصاحة، فلا نظر يزيفه، ولا سماع يبهرجه5.
وقال الحداد: خير الكلام ما نصبت عليه منفخة الروية، وأشعلت فيه نار البصيرة، ثم أخرجته من فحم الإفحام، ورققته بفِطِّيس6 الإفهام.
وقال النجار: خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير، ونشرته بمنشار التدبير، فصار باباً لبيت البيان، وعارضةً لسقف اللسان.
وقال النجاد: أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه، وحسنت مطارح معانيه؛ فتنزهت في زرابي محاسنه عيون الناظرين، وأصاخت لنمارق7 بهجته آذان السامعين.
وقال الماتح (المُسْتَقِي): أبين الكلام ما علقت وذم ألفاظه بكرب8 معانيه، ثم أرسلته بقليب9 الفطن، فمنحت به سقاءً يكشف الشبهات، واستنبطت به معنى يروي من ظمأ المشكلات.
وقال الخياط: البلاغة قميص فجربانه البيان، وجيبه المعرفة، وكماه الوجازة، ودخاريصه10 الإفهام، ودروزه11 الحلاوة، ولابسه جسد اللفظ، وروحه المعنى.
وقال الصباغ: أحسن الكلام ما لم تنصل بهجة إيجازه، ولم تكشف صبغة إعجازه، وقد صقلته يد الروية من كمود الإشكال، فراع كواعب الآداب، وألف عذارى الألباب.
وقال البزاز12: أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه، وحسن نشر معانيه، فلم يستعجم عنك نشر، ولم يستبهم عليك طي.
وقال الحائك: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مُفَوَّفاً13 منيراً، وموشى محبراً14.
وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج عن حد التخليع إلى منزلة التقريب إلا بعد الرياضة؛ وكان كالمهر الذي أطمع أول رياضته، في تمام ثقافته.
وقال الجمال: البليغ من أخذ بخطام كلامه فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عقالاً، والإيجاز له مجالاً، لم يند عن الأذهان، ولم يشذ عن الآذان.
وقال الفقاعي: خير الكلام ما روحت ألفاظه غباوة الشك، ورفعت رقته فظاظة الجهل، فطاب حساء فطنته، وعذب مص جرعته.
وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر بيانه سقم الشبهة، استطلقت طبيعة الغباوة؛ فشفي من سوء التفهم، وأورث صحة التوهم.
وقال الكحال: كما أن الرمد قذى الأبصار، فالشبهة قذى الأبصار، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة.
فأجمعوا كلهم على أن أبلغ الكلام، ما إذا أشرقت شمسه، انكشف لبسه.
فتركيب الألفاظ إذن، وحُسن استعمالها، هو ما يجب السعي لتعلُّمه. وضَمُّ الكلمات بعضها إلى بعض، ضمّاً سليماً يراعي خصائص العربية وسَنَنَها، هو ما يجب العمل على إتقانه.
يقول الرافعي: “إن فصاحة العربية ليست في ألفاظها، ولكن في تركيب ألفاظها، كما أن الهِزَّة والطرب ليست في النغمات، ولكن في وجوه تأليفها”. (تحت راية القرآن /19).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

1- نضد: نَضَدْتُ المَتاعَ أَنْضِدُه، بالكسر، نَضْداً ونَضَّدْتُه: جَعَلْتُ بعضَه على بعض.
2- سطت: السين والواو والطاء أصلٌ يدلُّ على مخالطة الشَّيءِ الشيءَ. يقال سُطت الشّيءَ: خلطتُ بعضَهُ ببعض.
3- كُورُ الحَدَّاد: الذي فيه الجَمْر وتُوقَدُ فيه النار وهو مبنيّ من طين.
4- الإِبْرِيزِ: الذهب الخالص.
5- البَهْرَجُ: الباطِلُ والرديءُ من الشيء، وهو معرَّب. يقال دِرْهَمٌ بَهْرَجٌ.
6- الفِطِّيْس: مثال -سِكِّيْت-: المِطْرَقَة العظيمة.
7- نمارق: النُّمْرُقُ والنُّمْرُقة والنِّمْرِقة، بالكسر: الوسادة، وقيل: وسادة صغيرة، والجمع نَمارق.
8- الكَرَبُ: الحبل الذي يشدّ طرفه في عروة الدلو وطرفه الآخر في الحبل الذي يجذب به الدلو ليكون هو الذي يلي الماءَ فلا يعفن الحبل الكبير.
9- القليبُ: البئر، والجمع القُلُبُ.
10- دَخاريص: دِخريصُ القميص ما يوسّع به من الشُّعَب وقد يقال دِخْرِصٌ ودِخْرصةٌ والجمع دَخاريص.
11- الدَّرْزُ: واحد دُرُوز الثوب ونحوه، وهو فارسي معرّب.
12- البَزُّ: الثيابُ، أو مَتاعُ البيتِ من الثيابِ ونحوِها، وبائعُهُ: البَزَّازُ، وحِرْفَتُهُ: البِزازَةُ.
13- وبُرْدٌ مُفَوَّفٌ أَي رقيق. والمفوف أيضا ذو بياض أو فيه بياض.
14- والمُحَبَّر: الشيء المزَيَّن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *