في حـدود الأدب ذ. إبراهيم أبو الكرم

الأدب رحب فسيح، وباحته واسعة، وحدوده بعيدة، وغوره عميق، وسرنا في مسيرتنا انطلاقا من العدد السابق نحو حدوده، واستعرضنا كيف تتنوع تضاريسه، وتختلف أجواؤه، ويلبس لكل مناسبة ما يلائم أغراضه فيتسيس حينا، ويتدين حينا، ويتمذهب أحيانا أخرى..
وتحدثت فيما سبق عن ماهية الأدب في المعاجم القديمة، وكيف جاوز موضوعُه حدودَه في أكثر من مناسبة، وكيف تعدى هدفه في عدد من المواضع، وأن ذلك مقبول منه لما كان طفلا لم يبلغ الحلم بعد، أما وقد عقل ورشد، وأدركه الإسلام، فالواجب عليه التزام مبادئه، وضبط حريته، وعدم الرعي بالمقربة من حماه.
بقيت الإشارة إلى أن هناك معجمات أخرى رصدت كلمة “أدب” جذراً لغوياً ومعنى اصطلاحياً مثل: كشاف اصطلاحات الفنون، والكليات للكفوي، وهناك معجمان لمجدي وهبة ومعجم لإبراهيم فتحي.
وقد وردت كلمة “أدب” في السنة الشريفة، كما في صحيح البخاري من قول النبي الله صلى الله عليه وسلم:
«أيما رجل كانت عنده وليدة فعلمها فأحسن تعليمها، وأدبها فأحسن تأديبها، ثم أعتقها وتزوجها فله أجران».
يقول الدكتور عبد الملك مرتاض المدرس بجامعة وهران الجزائرية معلقاً على هذا الحديث: “قرن التأديب بالتعليم ليس يعني إلا شيوع ذلك المعنى للأدب بهذا المفهوم في ذلك العهد المبكر، وقد استعمله بهذا المعنى أبو تمام في كتابه “الحماسة”.
أقول: بل استعمله قبل أبي تمام السلف الصالح علي بن أبي طالب ومجاهد وغيرهما ممن فسر قوله تعالى في سورة الحشر: {قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً‎} بقولهم: علموهم وأدبوهم.
كما ورد لفظ أدب، عند البخاري من قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه واصفا نساء المهاجرين بعد الهجرة قائلا: “فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَأْخُذْنَ مِنْ أَدَبِ نِسَاءِ الْأَنْصَار“.
مما يوضح أن الأدب والتأديب في الشرع جاء موافقا لما قدمناه من معانيه في معاجم اللغة، إذ يحمل معنى تهذيب النفوس وحملها على الفضائل، وتلطيف طريقة عيشها وتعاملها.
ويتأكد هذا المعنى حينما نتصفح كتب التفاسير وشروح الحديث فنجد علماء الشرع يستنبطون من الأحاديث والآيات آداب الاستئذان والشرب والأكل وطلب العلم وغير ذلك، حتى بلغ بكثير من المحدثين أن صنفوا كتب الآداب كما فعل البخاري رحمه الله في صحيحه، والترمذي في جامعه، وكما فعل ابن أبي الدنيا في أدب الدنيا والدين.
ويتماشى هذا الأمر مع ما نلاحظه من فرق بين تعامل الأعراب البادين الذين يعيشون بعيدين عن الحضارة والناس، وبين تعامل الحضريين الذين يعيشون في المدن، ويمكن استنباط الإشارة إلى ذلك من قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: «مَن بدا جفا»؛ أي أن غلظ الطبع وهو خلاف اللطافة والأدب في أهل البداوة.
هذا ما يمكن لمحه في كلمة أدب وهي ترد في مجامع الحديث، ولم يبتعد معناها عن مفهوم الأدب في المعاجم القديمة.
وقد تقدمت الإشارة في العدد السابق إلى أن الأدب أصابته تغيرات صميمية في عصرنا الحديث، ولا بأس أن أستعرض بعضا من رؤى المحدَثين له، على أنها أخذت منحى آخر، وهو رصد الأدب في الكتابة والقول خاصة دون تعاملات الحياة، وطرق العيش. وأجتزئ بما يلي:
يرى محمد إبراهيم الأنصاري: أن الأدب علم يتعرف منه التفاهم عما في الضمائر بأدلة الألفاظ والكتابة، وموضوعه الخط واللفظ وإيصال ذلك إلى شخص آخر من النوع الإنساني حاضرا كان أو غائبا، وبه تميز ظاهر الإنسان على سائر الحيوان. ونلاحظ أن هذا التعريف يجعل الأدب أساس التفاهم والتواصل، ولابد لذلك من مرسل ومستقبل، إضافة إلى طريقة الإيصال.
أما أحمد أمين فقد جعل الأدب تعبيرا عن الحياة أو بعضها بعبارة جميلة، أي أنه سجلُّ الحياةِ ومرآته، وعرفه أيضا بأنه روح العصر ونتاج المجتمع؛ لأنه يشرح الحياة الانسانية، ويساعد على فهم ميزات الأمة العقلية والنفسية وعيوبها. وهو صورة للواقع الاجتماعي.
من هنا فإنه يتغير بتغيره، لأنه يعبر عن حاجة الإنسان وهو كائن يتغير حسب العصور والأماكن. ويكاد يقترب هذا التصور ويتحد مع تصور ذ. محمد زكي العشماوي الذي أكد أن الأدب اكتشاف وارتياد لحقائق الحياة، وهذا التعريف كأنه يجعل الأدب نقدا للحياة وتأملا لها ولقوانينها، وأخذا للعبر من تجاربها وأحداثها، وتعليقا على ما يعيشه الإنسان فيها.
ويضيف د. محمد غنيمي هلال قائلا: إن الأدب تعبير حرّ عن وعي الأمة في آمالها الكبيرة ومُثُلها من وراء التصوير الصادق لواقعها، فيما يشف من إمكانات أو يوحي بها.
في حين عرفه بعضهم بآليته وأثره، فيقول: د.أحمد كمال زكي: “نشاط لغوي يستهدف توليد الحياة التي تحدث متعة جميلة”. وتحاشى بعضهم تعريفه فقال: “الأدب هو الشيء المجرد، ما أولانا ألا نتعب أنفسنا في محاولة تعريفه” (الأدب وفنونه ص 24).
هذه إحدى زوايا رؤية الأدب عند المحدثين، ولم تتفق على شيء، ولو أنها تقترب لتتحد، لكنها لا تتحد، وذلك أن الأدب في عصرنا لم ينجُ وبقية أشقائه من فروع العلوم الإنسانية، ليرصده كل طرف من موقعه الفكري وواقعه السياسي، وربما نجد بعض متلقي الأدب يُقَدِّم صورة معينة للأدب كيما يصاغ على مثالها، وبذلك يفقد الأديب حريته، ويغدو إبداعه معلباً، وأمثال هؤلاء المتلقين يريدون أن تصبح تجربة الإبداع الرائع عملية آلية، تخضع لما تخضع له أية عملية إنتاجية من مراعاة شروط العرض والطلب وأذواق المستهلكين!!
إن تسليع الأدب باسترضاء كل الأطراف، يئد الأدب ويعزل الأدباء عن دورهم المرجو، ويفقد الأدب ثمرتي المعرفة والمتعة المتمثلين بالصياغة الأدبية الإبداعية.
ويحاول د. مصطفى بكري السيد تأطير الأدب قائلا: الأدب فعل لغوي لأن الأديب يصنع بناءه بألفاظه ما قد يصنعه الحداد والبناء بالحديد والحجر ويتجسد فيه شكل من أشكال الوعي، وهو صدور عن موقع ثقافي، وإحساس جمالي، وموهبة لم تُسقَ بماء واحد، وفي كل الأعمال الأدبية تكون اللغة وسيطاً.
واللغة في القول الأدبي ليست مجموعة ألفاظ بل مجموعة علاقات، لأن المبدع لا يستعمل اللغة مجرد تركيب، أو إنشاء يحفظ أو يتوارث ويُلقَّن، أو رصفاً قواعدياً للمفردات المعجمية بل هو إبداع يحقق فرادته ورسالته بالصياغة، إنه (إنزال فكرة في مادة “اللغة” وتشكيله على مثالها).
فاللغة الأدبية هي التي شدتنا إلى محفوظنا من الأدب الجميل وجذبتنا إلى تلكم الرؤى التي تعج بالأفكار، وتضج بالحركة، وتموج باللون، وهي التي صنعت للأدب العربي سمعته، ومن إعادة توزيعها المتفرِّد نُسجت أثواب مجده، والشيء نفسه حصل في الأدب الغربي، فاللغة هي التي صنعت “عُطَيْل” قدّم نفسه لِـ (ديمونة) من خلال اللغة، وهي التي قوّضته في النهاية.
وإذا أعطيت للقول اللغوي كل هذه العظمة، فيحق لنا التساؤل:
أين يقف مضمون النص وموضوعه من أدبيته؟
إن النقد الحديث قد تجاوز ثنائية الشكل/المضمون، وأصبح من المتعذر درس كل منهما بمعزل عن الآخر، لما بينهما من علاقة اتحاد، وقيام أحدهما بالآخر.
ويبدو أن محاولة جمع كلمة المعرفين للأدب على صعيد واحد، أمر مستبعد، وهو أشبه عندهم بحصر الأدب وتضييقه، خاصة حينما تختلف زوايا الرؤى لهذا الطيف الذي يفرض نفسه لكن بلطافة (الأدب)، ومهما كان التحديد فإن حدود الأدب تكاد تكون وهمية، فالحرية له في اختيار ما شاء من الألفاظ، فبستان اللغة مفتوح له يتناول منه على حسب ذوقه، لكن مضمونه ينبغي أن يلتزم بتعاليم الإسلام، ويرقى نحو تحقيق هدفه الذي رسمه له أسلافه.
إن الأديب الحق يجب أن يكون ملتزماً فطرياً وأخلاقياً بمصالح المجتمع الكبرى، وبما يثري إنسانية الإنسان وما يرفع عنه من إصر وأغلال، وإذا كنا نجد أدباء لا يرتقون إلى هذا المستوى، ففي كل صنعة مهما كانت نبيلة نجد فئاماً من الناس يستأكلون بمبادئهم ويستطلقون العطايا بقيمهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *