الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف المرسلين وعلى آله وصحابته والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن المؤمنين الصادقين يفرحون بقدوم شهر رمضان، وتشتاق نفوسهم لإدراكه، ويحتسبون التعب والنصب في طول أيامه، ولا يتمنون سرعة انصرامه، بل يحزنون عند وداعه وانقضائه، فهو شهر الخيرات والبركات، واليمن والمسرات، شهر الرحمة والغفران، شهر الجود والإحسان، قال الشاعر:
خَيْرُ الوَدَاعِ لِشَهْرِنَا رَمَضَانِ *** هَلْ بَعْدَ بَيْنِكَ كَانَ مِنْ سُلْوَانِ
فَعَلَى فِرَاقِكَ سَالَ دَمْعُ عُيُونِنَا *** فَوْقَ الْخُدُودِ كَهَـاطِلٍ هَتَّانِ
فَهْوَ الْمُفَصَّلُ وَالْمُعَظَّمُ قَدْرُهُ *** خَيْرُ الشُّهُورِ وَسَيِّـدُ الأَزْمَانِ
وإذا كان هذا هو حال المؤمنين الصادقين، فإن صنفا من الناس –عافنا الله وإياهم- على العكس من ذلك، فهم يفرحون بانقضائه، ويطربون لزواله، ويهنئ بعضهم بعضا بانصرامه، فرمضان بزعمهم ينغص عليهم لذاتهم وشهواتهم، فهم في شوق إلى مقارفة المحظور، من شرب الخمور وغير ذلك من المعاصي والمنكرات، وفي هذا المعنى يقول أحمد شوقي أمير الشعراء في قصيدته: “العيد”:
رَمَضَانُ وَلَّى هَاتِهَا يَا سَاقِي *** مُشْتَاقَةً تَسْعَى إِلَى مُشْتَاقِ
ومعنى هذا البيت واضح، فهو يخاطب كأس الخمرة، فهو في شوق إليها وهي مشتاقة إليه.
وكنت قد قرأت للشيخ محمد متولي الشعراوي أنه قال: كنت أُعجَب كثيرا بشعر أحمد شوقي، وأقدمه على غيره من شعراء عصره، إلى أن قرأت له قصيدة التي سماها: “العيد”، والتي استهلها بقوله:
رَمَضَانُ وَلَّى هَاتِهَا يَا سَاقِي *** مُشْتَاقَةً تَسْعَى إِلَى مُشْتَاقِ
فلم يعجبي ما قال، بل أخذني الذهول والاستغراب، واستبعدت أن يقول شوقي مثل هذا الكلام، وشاءت الأقدار أن ألتقي به في بعض المناسبات، فقلت له: يا شيخ أحمد، سمعتك تقول في بعض قصائدك: “رمضان ولى هاتها يا ساقي..”، فكيف ذلك؟ قال: يا شيخ محمد، أما تحفظ القرآن؟ قلت: بلى، قال: أما تحفظ قوله تعالى: “وََالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ، أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ”؟!
وهذه القصيدة أنشأتها ردا على بيت شوقي وهي من نفس وزنه وقافيته، أقول فيها:
رَمَضَانُ شَهْرُ الجُودِ وَالإِعْتَاقِ *** شَهْرُ التُّقَى وَالخَوْفِ وَالإِشْفَاقِ
رَمَضَانُ وَلَّى فَالدُّمُوعُ تُبِينُهُ *** وَالقَلْبُ مَكْلُومٌ مِنَ الأَشْوَاقِ
شَهْرُ العِبَادَةِ وَالتَّقَرُّبِ وَالرِّضَا *** شَهْرُ التِّلاَوَةِ فُرْصَةُ الإِنْفَاقِ
شَهْرٌ لِتَهْذِيبِ النُّفُوسِ وَرَدِّهَا *** عَنْ غَيِّهَا وَسَفَاسِفِ الأَخْلاَقِ
شَهْرٌ تَضَاعَفَتِ الأُجُورُ لأَجْلِهِ *** مِنْ غَيْرِ عَدٍّ جَلَّ ذُو الإِغْدَاقِ
أَبْوَابُ جَنَّاتِ العُلاَ لِقُدُومِهِ *** تُلْفَى مُفَتَّحَةً بِلاَ إِغْلاَقِ
وَتُغَلَّقُ الأَبْوَابُ فِي النَّارِ الَّتِي *** تُصْلَى وَتُحْمَى مَوْطِنِ الإِحْرَاقِ
وَالمَارِدُ الشَّيْطَانِ مِنْ جِنٍّ وَكُـ *** ـلِّ مُوَسْوِسٍ وَمُعَمِّرِ الأَسْوَاقِ
فَهْوَ الْمُصَفَّدُ وَالْمُسَلْسَلُ رَحْمَةً *** وَهُوَ الْمُغَلُّ فَليسَ ذَا إِطْلاَقِ
رَمَضَانُ مَدْرَسَةً لِمَنْ رَامَ العُلاَ *** فُرَصٌ لِكُلِّ مُنَافِسٍ أَوْ رَاقِ
شَهْرٌ يَزِينُ بِلَيْلَةٍ قَدْ خُيِّرَتْ *** عَنْ أَلْفِ شَهْرٍ كُلِّهَا بِوِفَاقِ
وَمَلاَئِكُ الرَّحْمَنِ تَنْزِلُ فِي الوَرَى *** يَا عِزَّةَ التَّوْفِيقِ لِلسَّـبَّاقِ
رَمَضَانُ أُنْسُ الذَّاكِرِينَ وَمَرْتَعٌ *** نَضِرٌ بِعَذْبِ زُلاَلِهِ الرَّقْرَاقِ
رَمَضَانُ وَاسِطَةٌ لِعِقْدِ شُهُورِنَا *** نُورٌ تَلأْلأَ فِي عُلاَ الآفَاقِ
شَهْرُ الإِنَابَةِ وَالتَّضَرُّعِ خَشْيَةً *** وَالكُلُّ مُفْتَقِرٌ إِلَى الْخَلاَّقِ
وَدَعَا الأُلَى الرَّحْمَنَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ *** أَنْ يَبْلُغُوا رَمَضَانَ دُونَ فِرَاقِ
وَبِمِثْلِهِ دَعَوا الإِلَهِ تَقَبَّلَنْ *** صَوْمَ العِبَادِ لِمَوْسِمِ الإِعْتَاقِ
يَا مُدْرِكاً رَمَضَانَ جُدْ لِحُلُولِهِ *** لاَ تَخْشَ مِنْ غَرَرٍ وَلاَ إِمْلاَقِ
يَا مُدْرِكاً رَمَضَانَ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ *** مَنْ صَامَ فِي رَمَضَانَ صَوْمَ نِفَاقِ
فَإِذَا تَوَلَّى وَانْتَهَتْ أَيَّامُهُ اقْـ *** ـتَرَفَ الذُّنُوبَ وَسَافِلَ الأَخْلاَقِ
هَلْ يَطْرَبُ القَلْبُ الْمُحِبُّ لِبُعْدِهِ *** أَمْ يَسْتَطِيبُ الأُنْسَ بَعْدَ فِرَاقِ
مَنْ بَاتَ جذْلاَناً يَرُومُ فِرَاقَهُ *** هُوَ فَاسِدُ الأَفْكَارِ وَالأَذْوَاقِ
قُلْ لِي بِرَبِّكَ يَا أَمِيرَ الشِّعْرِ هَلْ *** يَرْضَى الأَمِيرُ مَقَالَةَ الفُسَّاقِ
لاَ يَا أَمِيرَ الشِّعْرِ مَا وَلَّى وَلاَ *** ذَهَبَ الَّذِي هُوَ مِنْحَةُ الخَلاَّقِ
لاَ يَا أَمِيرَ الشِّعْرِ مَا وَلَّى وَلاَ *** غَابَ الَّذِي هُوَ مَوْرِدُ العُشَّاقِ
أَبْقَى الْمَحَبَّةَ فِي القُلُوبِ وَلَمْ يَزَلْ *** مُتَرَدِّداً بِصَدَاهُ فِي الآفَاقِ
مَا غَابَ ذِكْرُكَ عَنْ نُفُوسِ ذَوِي التُّقَى *** فَلَقَدْ سَمَوْتَ بِفَضْلِكَ الدَّفَّاقِ
كُنَّا الظَّلاَمَ وَكُنْتَ بَدْراً سَاطِعاً *** كُنَّا العِطَاشَ وَكُنْتَ نِعْمَ السَّاقِي
لَمَّا ضَلَلْنَا كُنْتَ نَجْماً هَادِياً *** كُنَّا السِّقَامَ وَكُنْتَ كَالتِّرْيَاقِ
يَا رَبِّ فَارْزُقْنَا السَّدَادَ بِصَوْمِهِ *** يَا ذَا العَطَا وَمُقَسِّمَ الأَرْزَاقِ
وَاقْبَلْ صِيَامَ الْخَاشِعِينَ تَضَرُّعاً *** وَقِيَامَ مُرْسِلِ دَمْعِهِ الْمُهْرَاقِ