“وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ
بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ”
قال جلّ ثناؤه: “وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ” فوصَفه جلّ ثناؤه بأبلغ مَا يوصَف بِهِ الكلام، وهو البيان.
قال جلّ ثناؤه: “خَلَق الإنسان، علَّمه البيان” فقدّم جلّ ثناؤه ذكر البيان عَلَى جميع مَا توحَّد بخلقه وتفرَّد بإنشائه، من شمس وقمر ونجم وشجر وغيرِ ذَلِكَ من الخلائق المحْكمة، فلمّا خصَّ جلَّ ثناؤه اللسانَ العربيَّ بالبيانِ عُلم أن سائر اللغات قاصِرَةٌ عنه وواقعة دونه.
فإن قال قائل: فقد يقع البيانُ بغير اللسان العربي، لأن كلَّ مَن أفْهَم بكلامه عَلَى شرط لغته فقد بَيَّن، قيل لَهُ: إِن كنتَ تريد أن المتكلّم بغير اللغة العربية قَدْ يُعرِبُ عن نفسه حَتَّى يفهم السامع مراده فهذا أخس مراتب البيان، لأن الأبكم قَدْ يدلُّ بإشارات وحركات لَهُ عَلَى أكثر مراده ثُمَّ لا يسمّى متكلماً، فضلا عن أن يُسمَّى بَيِّناً أَوْ بليغاً، وإن أردت أنَّ سائر اللغات تبيّن إبانة اللغة العربية فهذا غَلط، لأنا لو احتجنا أن نعبِّر عن السيف وأوصافه باللغة الفارسية لما أمكننا ذَلِكَ إِلاَّ باسم واحد، ونحن نذكر للسيف بالعربية صفات كثيرةً، وكذلك الأسد والفرس وغيرهما من الأشياء المسمّاة بالأسماء المترادفة، فأين هَذَا من ذاك، وأين لسائر اللغات من السَّعة مَا للغة العرب؟
وَقَدْ قال بعضُ علمائنا حين ذكر مَا للعرب من الاستعارة والتمثيل والقلب والتقدير والتأخير وغيرها من سنن العرب فِي القرآن فقال: ولذلك لا يقدر أحد من التراجم عَلَى أن ينقله إِلَى شيء من الألسنة كما نُقل الإنجيل عن السريانية إِلَى الحَبشية والرُّومية، لأن العجم لَمْ تتَّسع فِي المجاز اتساع العرب، ألا ترى أنك لو أردت أن تنقُل قوله جلّ ثناؤه: “وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء” لَمْ تستطع أن تأتي بهذه الألفاظ المؤدِّية عن المعنى الَّذِي أَوْدِعَتْه حَتَّى تبسُط مجموعها وتصِل مقطوعها وتُظهر مستورها فتقول: “إِن كَانَ بَيْنَك وبين قوم هدنة وعهد فخفت منهم خيانة ونقضاً فأعلمهم أنّك قَدْ نقضت مَا شرطته لهم وآذِنْهم بالحرب لتكون أنت وهم فِي العلم بالنقض عَلَى استواء”.
فأين لسائر الأمم مَا للعرب؟
ومن ذا يمكنه أن يُعبّر عن قولهم: ذات الزُّمَيْن، وكَثْرَة ذات اليد، ويد الدهر، وتخاوَصَت النجوم، ومَجَّت الشمسُ ريقها، ودَرأ الفيءَ، ومفاصل القول، وأتى بالأمر من فصِّه، وهو رَحْب العَطَن، وغَمْرُ الرداء، ويخْلق، ويَفري، وهو ضيّق المَجَمّ، قلِق الوَضِين، رابط الجأش، وهو ألْوى، بعيد المُسْتَمَرّ، وهو شراب بِأنقع، وهو جُذَيْلُها المحكَّك وعُذَيقُها المُرَجَّب، وَمَا اشبه هَذَا من بارع كلامهم ومن الإيماء اللطيف والإشارة الدّالة.
وَمَا فِي كتاب الله جلّ ثناؤه من الخطاب العالي أكثر وأكثر، قال الله جلّ وعزّ: “وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ”، و”يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ” ، و”وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا”، و”إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً”، و”إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم”، “لاَ يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ” وهو أكثر من أن نأتي عَلَيْهِ. (الصاحبي في فقه اللغة بتصرف يسير).
هذه هي لغة العرب، لغة الرسالة الخاتمة التي أخرجت الناس من الظلمات إلى النور، اللغة التي اصطفاها الله لهذه الأمة، اللغة التي يريد بعض الأدعياء محاربتها والالتفات إلى غيرها من اللغات التي هي دونها لخدمة مشاريعهم التغريبية التخريبية التي تريد طمس الهوية والخصوصية المغربية.