من تطورات اللغة العربية محمد ابن تاويت التطواني

اللغة ما هي إلا كائن حي، يجري عليه من التطورات ما يجري على كل كائن مثله، ولقد لاحظ الأقدمون ذلك، وتفرغوا لدراسته، وراقبوا كل ما يعرض عليه من عوارض، في كيانه، أو استعمالاته، أو في دلالاته، وأشهر من اهتم بذلك ابن قتيبة وابن جني، والراغب الأصفهاني.

وهناك بعض الكلمات في العربية، لم نر من تنبه لها وأشبع فيها القول، وهي تعد من فقه اللغة، فمن ذلك كلمة:
أقـام بالمكـان
فكلمة الإقامة، كانت في أصلها متعدية، فأقام الإنسان بالمكان، أي أقام خيمته به، وهذا ما حصل بالضبط، في اللغة التركية، فالقيام عندهم «طورمق» والإقامة «طورتمق» بعلامة التعدية، مع أنه يقصد به المكوث، كما في العربية، فما السبب في ذلك؟
السبب يرجع إلى طبيعة الأتراك، التي تشبه العرب، في تنقلهم، ورحلاتهم المستمرة، أولئك على فرس، وهؤلاء على جمل، فموطن الأتراك الأصلي، وهو أواسط آسيا، وبه عرف تركستان، أي حوز الترك، ومن العلوم في الجغرافية أن هذه المنطقة تسمى منطقة الأفراس، فهي موطن الفرس الأول، وطبيعتها تلائمه أكثر من غيرها، وكذلك الجمل سفينة الصحراء، فهو عربي النشأة، لا ينازعه في ذلك منازع، وشبه الجزيرة العربية أوفق من غيرها، فكان الفرس عمدة التركي، كما كان الجمل عمدة العربي، ومن كان يملكها على ذلك الحين، وكان رحالة يقطع الفيافي والقفار، ويطوي الأرض، ويجوب الأقطار، هذا ما سهل على الترك مع العرب انتشارهم في البلاد، ويسر عليهم الضرب في طولها وعرضها، ومن لاحظ ما تفعله السيارة الآن في نفوس أصحابها، أدرك جيدا ما كانت عليه نفوس أولئك القوم، من الاستهانة بالمسافات الشاسعة، والنزوع إلى انتهاب الأبعاد القاصية..فهم رحال غالبا، ولا يطيب لهم المقام الطويل في مكان بعينه، خصوصا إذا كانت الطبيعة لا تسعفهم، وتحكاهم دائما على الانتجاع والتوسع…
وعلى هذا فلا غرو أن تكون الإقامة في مكان ما إقامة مؤقتة، تحت سقف الخيمة، التي لا تقلم إلا لتقوض بعد حين قصير، ولكن بعد ذلك صارت كلمة الإقامة تدل على ما تدل عليه الآن، من غير ما تكون هناك خيمة، ولا فرس ولا جمل…
ومن ذلك كلمة نزل بالمكان
وهذه كلمة، لها اتصال بسابقتها بل هي أهل بما عللنا به الكلمة السابقة، ففلان نزل بالمكان، أي نزل عن دابته، أو جمله، أو فرسه به، لنفس العلة التي قدمت آنفا. ولكن هذه تخالف الأولى، في مدة الإقامة، حيث أنها أقصر من الأولى، لأنها تستلزم إقامة الخيمة.
ومن ذلك كلمة حل فلان بالمكان
إذا كان الأصل أنه رحل به، بعد ما نزل عن راحلته، وهذه صارت ترادف سابقتها في معناها، لأن الإنسان –عندهم- ربما حل ضيفا على غيره، أو نزل عليه، فلا يكون هناك داع لإقامة خيمته، ولا يطول مكثه كثيرا وقد أحسن من عرب كلمةhotel” ” بالنزل، لأن الأصل “hostel” بمعنى المثوى، مأخوذا من الضيافة، أما الذي يرادف الإقامة، فهو التخييم، فخيم بالمكان؛ وأقام به، في معنى واحد، ولهذا يقولون نزل المكان أو حل به؛ فأقام، ولا يقولون العكس، أقام بالمكان؛ أو خيم به؛ فنزل، أو حل به.
ومن ذلك كلمة الوقوف
إذ الأصل في الوقوف، أنه معدى إلى غيره، قال تعالى: «وقفوهم إنهم مسئولون»، وعلى هذا ففلان وقف بالمكان، أي وقف دابته مثلا، قال امرؤ القيس:
وقوفا بها صحبي على مطيهم *** يقولون لا تهلك أسى وتجمل
ثم تُنُوسِيَ ذلك واستعملت كلمة الوقوف، لازمة وشاعت في لزومها، أكثر من تعديها..
ومن ذلك قطن المكان
إذا أقام به لا يبرحه، فهو مأخوذ من القيطون، بمعنى المخدع، أو خيمة داخل خيمة، معرب من المصرية أو البربرية، ومن شواهدهم:
أقاطن قوم سلمى أم نووا ظعنا *** أن يظعنوا فعجيب عيش من قطنا
وفي القيطون يقول عبد الرحمن بن حسان:
قبة من مراجل ضربتها *** عند برد الشتاء في قيطون
وعلى هذا فالقطون يكون أدوم من الإقامة، فقالوا فيه أقام بالمكان، لا يبرحه -بهذا القيد- وقالوا قطَّان مكة، لأنها مدينة يسكنون بها.
ومن ذلك عدن بالمكان
إذا أقام به لا يبرحه، كذلك، ومنه -في القرآن- جنات عدن، أي جنات إقامة خالدة، لأن العدن في الأصل بطنان الأودية التي يستريض فيها ماء السيل، فيكرم نباتها، وتلزمه الإبل فتألفه ولا تبرحه، ومنه المعدن المكان الذي يثبت فيه الناس فيقيمون فيه ولا يتحولون عنه، صيفا ولا شتاء، ومعدن كل شيء مأخوذ من هذا المعنى، لثبات الذهب والفضة به مثلا. ومنه سميت المدينة اليمنية «عدن» لأن صاحبها «أبين الحميري» عدن بهذا الموضع، ولم يرم عنه ويبرحه.
ومن ذلك كلمة بلد
مأخوذة من بلد بالمكان أقام به ولم يتحول عنه، وكل موضع قد استحيز فهو بلد، والطائفة منه بلدة، وسمي الجن ساكن البلد، لأنه ساكن الأرض -كما يقولون-، وسميت مكة بلدا لأن أصحابها مقيمون بها، كما سميت المقبرة كذلك، لهذا السبب، وكلمة البلد، يمانية، بمعنى الدار، ولهذا قالوا «هذه الدار نعمت البلد»، وقيل للشيء الدائم «تالد بالد» ويقال «لبد بالأرض» أي اجلس واستقر، وبلد القوم، أي لزموها، يقاتلون عليها، وتبلد الرجل وقف متحيرا مترددا، ومنه البلادة.
ومن ذلك سكن بالمكان
لأنه سيسكن فيه ولا يحيد عنه ولا يتحرك إلى غيره فالموضع «مسكن» لسكنى الناس، وسكونهم إليهن قال كثير:
وإن كان لا سعدى أطالت سكونه *** ولا أهل سعدى آخر الدهر نازله
وقالوا للجن سكان الدار، لأنهم مقيمون بها، كما يزعمون، وقد نهاهم النبي عن الذبائح التي كانوا يعتقدون اتقاء شرهم بها.
ومن ذلك كلمة الدار
فإنها سميت بذلك،- كما يقول ابن جني في الخصائص- لأنها مأخوذة، من دار يدور، لكثرة حركات الناس فيها، ودورانهم بها، وسميت المقبرة دارا، كما في الحديث تشبيها لها بدار الأحياء، وما بها ديار، أي أحد يدور بها.
فهي مأخوذة من «عدن بالمكان» أقام بهن وهو فعل ممات، فهي مدينة على صيغة فعيلة –للمفعول- ونسبت إليها المدنية، كما اشتق منها التمدن، بمعنى العمران والحضارة، فالعمران، أصله من عمر الرجل بالمكان، سكن فيه، ثم دل على المدنية والحضارة، وأما الحضارة، فهي من الحضور بالمدينة، والسكنى بها، ثم شملت كما يقول ابن خلدون: «التفنن في الترف، وأحكام الصنائع المستعملة في وجوهها ومذهبها، من المطابخ والملابس، والغرس وغيرها، وهذا بالضبط ما أصاب التمدن، فإنه من تمدن الرجل، إذا تخلق بأخلاق أهل المدن، من سكنى وغيرها، ثم صارت الكلمة تدل على ما صارت تدل عليه كلمات الحضارة والمدنية والعمران.
فيلاحظ في هذا، أن العرب انتهوا إلى منشأ الحضارة هو الاستقرار، بخلاف البداوة، ولهذا قال النبي: «من بدا جفا»، وهذه الملاحظة العربية، هي التي لوحظت تماما في كلمة Civilisation الانجليزية والفرنسية، أو Civilization الإسبانية، فهي مأخوذة من civil أي مدني، أما الألمانية فهي تستعمل في هذا كلمةKultur مأخوذة من الكلمة اللاتينية coler بمعنى الفلاحة والحرث، في أصلها.. والفلاحة والحرث، مظهر من مظاهر الاستقرار، لا محالة.. ثم استعيرت كلمة culture التي كانت تدل في أصلها على الفلاحة والحراثة فالتمدن والعمران والحضارة، للتهذيب، وهي على ما زالت متصلة بمعناها الأول الذي يناسبه التشذيب، أو التهذيب..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *