المعري في حضرة الثورة السورية لإسقاط النظام الأسدي ذ. أبو الكرم إبراهيم

هذه محاولة بديعة قمت فيها بمحاورة بعض أبيات المعري، انتقيتها حسب مواضيعها التي تتقارب والظروف التي تعيشها سوريا في ثورتها على النظام الأسدي، فاستنطقتها وحاولت إسقاطها على الوضع الحالي للثورة، ولم أخرج فيما استشهدت به من الأبيات عن شعر المعري.
بدأت شرارة الانتفاض ضد النظام الأسدي في أواسط شهر مارس من هذا العام. وكتبت أولى سطور الثورة بدماء درعا وإدلب وريف دمشق ومعرة النعمان..
تلتحق معرة النعمان، مسقط رأس أبي العلاء بالبلدات الثائرة على الأسد، غير آبهة لزئيره، ولا خائفة من سطوة مخالبه وأنيابه…
وكأن المعري يسمع قرع نعال المتظاهرين وضجيجهم، فينتفض خارجا منبعثا من قبره، صائحا مع الصائحين، بعدما خانه دهره في حياته، إذ لم يجد من يناضل معه عن حقه، وطال ما أشعر المعري وأبدى آراءه التي منها الرديء الذي حاد فيه عن الصواب حيادا واضحا، وأساء فيه إلى المقدس بفلسفته، ومنه ما كان صالحا جيدا، يكتب بماء الذهب، ومنه وهو الغالب ما يعكس حرمان المعري، إذ يتسع صدره للشعر حين تضيق نفسه بالحياة، ويصب جام غضبه على الزمان وأهله، وينتقد الحالات الاجتماعية التي سودت الحياة في عينه، وأظلمت عليه الدنيا بشساعتها؛ كالفقر والظلم وغير ذلك من تعاسة الحياة التي يسعى ويطالب بإعدامها كل إنسان.
لكن أبا العلاء ذرعته الوفاة، دون أن يجد من يصرخ معه على هذه المطالب، وخلد نداءه بها في شعره، ولمّا لم تجد آذانا صاغية ملبية أخلد إلى قبره حيث منكر ونكير. واليوم بعدما خلت قرون على وفاته، فكأنه يسمع نداء مطالبه عاليا، فينتفض من قبره، ويلتحق بالمتظاهرين..
يرى أحدهم طلعة المعري وهو ينفض عنه غباره فيتذكر قوله:
فهل قام من جدث ميت *** فيخبر عن مسمع أو مرى
ثم يكمل المعري البيت أمام ذهول الجماهير مثبتا ذاته، طاردا الشك باليقين:
ولو هبّ صدقه معشرٌ *** وقال أناس طغى وافترى
لكنه قبل التقدم إلى جموع المحتجين، يتذكر وصيته التي أوصى أن تكتب على قبره، وهي قوله:
هذا جناه أبي علــــــــــــــــيّ وما جنيت على أحد
قولا بفلسفة الملاحدة أن الأبوين اللذين سعيا في إخراج ابنهما إلى الدنيا قد جنيا عليه وظلماه، بناء على أن الدنيا دار تعاسة وشقاء.
يحس أحمد بالجرم، وقد شم رائحة الانتقاد وسط المظاهرة الحاشدة. فيندم حين لا ينفع الندم، ويزيد من ندمه ما رآه من العمران والحياة المادية المتطورة الحديثة التي تجذب العين، وتروق النفس. ويحاول طمس ما أبقى الزمان من الوصية وقد كادت أن تدفن في التراب، فعوامل الزمان محت البيت إلا كلمة واحدة هي: جنيت.
وقبل أن يصل أبو العلاء إلى قلب المظاهرة اكتنفه اثنان من المثقفين وطرح عليه السؤال أحدهما:
هل يعلم الأبوان كيف ستكون حال ابنهما في حياته سعيدة أم تعيسة؟
أجاب المعري بكل منطقية: لا.
ثم سأله ثانية: فإن سعد فهل السبب هما، وإذا شقي هل السبب هما الوالدان؟
ثم عقب الثاني: يا أبا العلاء تب إلى الله قبل أن يأتيك داع الموت، فإن هذا كلام يصدر ممن عول على الحياة الدنيا لتكون دار بقائه، أما الموقن بالآخرة فإنه وإن تعس في حياته فنعيم الآخرة في انتظاره. ألم تسمع لقول نبينا صلى الله عليه وسلم: يؤتى أتعس أهل الدنيا فيغمس في الجنة غمسة فيقال له: هل رأيت تعاسة قط؟ فيقول لا يارب.
سرت الموعظة إلى قلب أبي العلاء، فأنشد:
كأني كنتُ في أزمان عادٍ *** أعاشر آل قيل أو مريد
أريد الآن مغفرة فإني *** أراقب حتف مُغفرة بريد
التحق المعري بالجموع، ونزل إلى الشارع وسط الجماهير المحدقة به وهي تردد في فرح:
دعيت أبا العلاء وذاك ميْن *** ولكنّ الصحيح أبو النزول
عرفتُكِ جيدا يا أم دفر *** وما إن زلتِ ظالمة فزولي
ووقف خطيبا وقد بدأت المواجهات مع عناصر الأمن في شوارع معرة النعمان، ودخان القنابل المسيلة للدموع تتصاعد من كل مكان. ثم لم يصبر حتى سأل بعض الثوار، عن حال الجوار: ما حال العراق؟ فأجاب بعد سكوت وأسف: وقعت في أيدي السماسرة من الفرس، ثم بيعت في سوق النخاسة لرجل من بني الأصفر، فساقها قسرا، وقتل أهلها، وجعل أشرافها سفلتها، واستحل خيراتها، وضحى بصاحبها..
احمر وجه أبي العلاء، واغرورقت عيناه ولما ينه الرجل كلامه أنشد قائلا:
إنّ العراقَ وإن الشام من زمن … صفْرانِ ما بهما للعدلِ سلطانُ
ساسَ الأنام شياطينٌ مُسَلَّطَةٌ … في كلِّ قُطْرِ من الوالين شَيطانُ
متى يقوم (زعيمٌ) يستقيدُ لنا؟ … فتعرف العدل أجيال وغيطان
نقلت القنوات خطاب المعري، وفهم منه بشار لمز الثائرين، فأطلق العنان لعناصره بالقتل والتعذيب والسجن. فلم يبق للشعب إلا أن يصيح: ارحل. وصاح المعري في وجه من خرج يتزلف لبشار بطول العمر:
وعُمّر أكمَهاً بشارُ
وكان على المعري أن لا يخاف من الموت وقد جربه، وهو يرى أمامه ما لا عهد له به من دبابات ورشاش ونار تصب صبا فيعلن ببساطة معرفته بالأسلحة:
والدهر مُفتنّ الغوائل مُهلك *** ربّ الحسام وحامل المئشار
صمما حشا أذن الكميت ودرهمي *** كمه أحل بناظري بشار
هكذا أدرك المعري أن الرئيس قد أصم آذانه عن مطالب الشعب، لكن الجرحى والقتلى، والثكالى، والأرامل واليتامى يتصورون لبشار في كوابيس نومه، فيؤزونه أزا بصراخهم، ويزعزون به سريره محاولين انتشاله..
ويستمر المعري في وعظ الرئيس الشبل، وتذكيره بالموت، وقد رأى من هول القبر ما رأى، ويحاول تذكيره بأبيه الأسد:
وما وجدتُ منايا القوم مغفِلة *** شبلا بغاب ولا غفرا بإشبيلا
كم ساد في مدة الأيام من رجل *** ثم انقضى فهو مثل المرء لم يسد
يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *