قيل: يجب أن يكون الخطيب رابط الجأش ساكن الجوارح، قليل اللحظ متخيّر اللفظ جهير الصوت، وأن يضع في صدر كل خطبة من النكاح والعيد والصلح ما يدل على عجزها، وأن يكون فيها آيات وإلا كانت شوهاء، ولذلك قال عمران بن حطان: أول خطبة خطبتها عند زياد، فقال: هذا الفتى أخطب الناس. لو كان في خطبته شيء من القرآن، وليس من السنّة التمثل فيها بالشعر.
وقال الجاحظ: يجب أن يفرق بين صدر خطبة النكاح، وخطبة العيد وخطبة الصلح، وكانوا يحمدون الجهير الصوت ويذمّون ضئيله.
صعوبة تولّيها
قيل لعبد الملك: أسرع إليك الشيب، فقال: كيف لا؟ وأنا أعرض عقلي في كل جمعة على النّاس.
وقيل: نعم الشيء الإمارة، لولا قعقعة البريد وصعوبة المنبر.
وقيل: إياك والخطبة فإنها مشوار كثير العثار.
وقيل: لا يقدم على الخطبة إلا فائق أو مائق.
وقال عمر رضي الله عنه: لا يتصعّدني شيء كما تتصعدني خطبة النكاح. قيل: إنما صعب عليه لقرب الوجوه من الوجوه ومن صعد المنبر رأى نفسه أرفع فيكون أجسر. وقيل أنه لا يجد من تزكية الخاطب بدا فلذلك كرهه.
من ارتج عليه فيها فاعتذر بعذر حسن
ارتج على يزيد بن المهلب فلما نزل قال:
فإن لا أكن فيكم خطيبا فإنّني … لسيفي إذا جدّ الوغا لخطيب
فقيل: لو قلت هذا على المنبر، لكنت أخطب العرب.
وصعد خالد بن عبد الله القسري المنبر فأرتج عليه فقال: إن هذا الكلام يجيء أحيانا، ويعسر أحيانا وربما طلب فأبى وكوبر فعتا. التأنّي لمجيئه أيسر من التعاطي لأبيّه. وقد يختلط من الجريء جنانه وينقطع من الذرب لسانه، وسأعود فأقول.
وارتج على أبي العباس السفّاح لما صعد المنبر فنزل ثم صعد، وقال: أيّها النّاس إن اللسان بضعة من الإنسان، يكل بكلاله إذا كلّ، ويرتجل لارتجاله إذا ارتجل. ونحن أمراء الكلام بنا تفرّعت فروعه، وعلينا تهدّلت غصونه، ألا وإنا لا نتكلم هذرا بل نسكت معتبرين وننطق مرشدين.
من اعتذر بخرافة أو نادرة
حضر عبد الله بن عامر على منبر البصرة فاشتد جزعه فقيل: إن هذا مقام صعب فامتحن فيه غيرك. فأمر وازع بن مسعود أن يصعد ويخطب فلما ابتدأ الكلام حصر، فقال: لا أدري ما أقول لكم، ولكنني أشهدكم أن امرأتي طالق فهي التي أكرهتني على حضور الصلاة.
وصعد عتاب بن ورقاء منبر أصبهان يوم النحر، فحضر فقال: لا أجمع عليكم عيّا وبخلا، ادخلوا سوق الغنم، فمن أخذ منكم شاة فهي له وعليّ ثمنها.
الأمر بالإغضاء عنه لئلا يدهش
صعد أعرابي المنبر فلما رأى الناس يرمقونه صعب عليه الكلام، فقال: رحم الله عبدا قصر من لفظه ورشق الأرض بلحظه ووعى القول بحفظه. وصعد روح بن حاتم المنبر، فلما رفع الناس أبصارهم قال لهم: نكّسوا رؤوسكم وغضّوا أبصاركم، فإن أول مركب صعب.
وصف خطيب مصقع طلحة:
ركوب المنابر وثّابها … معنّ بخطبته مصقع
وقال قيس بن عاصم:
خطباء حين يقول قائلهم … بيض الوجوه مصاقع لسن
وقال آخر:
يرمون بالخطب الطوال وتارة … وحي الملاحظ خيفة الرقباء
جماعة من مشاهير الخطباء
منهم قس بن ساعدة، ولقيط بن معبد، وزيد بن جندب، وصعصعة بن صوحان، وقطري بن الفجاءة، وعمران بن حطان.
وتكلّمت الخطباء يوما عند معاوية رضي الله عنه فقال: والله لأرمينّهم بالخطيب الأشدق. قم يا زيد فتكلم.
ومن الخطباء القدماء: كعب بن لؤي، وكان يخطب على العرب كافّة. فلّما مات أكبروا موته، وأرّخوا بموته إلى عام الفيل.
ومن خطباء اليمن حمير بن الصباح وكان المفضل بن عيسى الرقاشيّ من أخطب الناس، وكان متكلما قاصّا يقعد إليه عمرو بن عبيد.
المعتذر بعجزه عن الخطبة
قال كعب الأسدي:
فإن لا أكن في الأرض أخطب قائما … فإنّي على ظهر الكميت خطيب
وقال لبيد:
إذا اقتسم النّاس فضل الفخار … أطلنا على الأرض ميل العصا
وله:
ما إن أهاب إذا السرادق غمّه … قرع القسيّ وأرعش الرعديد
ذمّ خطيب
قال وائلة الدوسيّ:
لقد صبرت للذلّ أعواد منبر … يقوم عليها في يديك خطيب
بكى المنبر الشرقيّ لما علوته … وكادت مسامير الحديد تذوب
وقال منصور بن ماذان:
أقول غداة العيد والقوم شهد … ومنبرنا عالي البناء رفيع
لعمري لأن أضحى رفيعا فإنّه … لمن يرتقي أعواده لوضيع
(من كتاب محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء لأبي القاسم الحسين بن محمد المعروف بالراغب الأصفهاني بتصرف يسير).
ويحسن في هذا المقام إضافة نموذج من خطب أبلغ البلغاء وأفصح الفصحاء نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
في حديث حجة النبي صلى الله عليه وسلم الذي رواه مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال النبي صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ عَلَيْكُمْ كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا فِي بَلَدِكُمْ هَذَا ألا كُلَّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمي مَوْضُوعٌ وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإنَّ أَوَّل دَمٍ أضع من دمائنا دَمُ ابْن رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ -كَانَ مُسْتَرْضَعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ- وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا رِبَا للعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ.
واتَّقُوا الله فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَان الله وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ الله، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذلك فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عَلَيْكُمْ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ، وقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ -إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ- كِتَابَ الله، وَأَنْتُمْ تسألُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟). قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فقَالَ بِأُصْبُعِهِ السَّبَّابَةِ يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُبُهَا إِلَى النَّاسِ: (اللهمَّ اشْهَدِ، اللهمَّ اشْهَدْ) ثلاث مرات.
عشر ذي الحجة
شعر:عبد الجيد أيت عبو
عَشْرًا بِذِي الحِجَّةِ اسْتَقْبَلْتُ مُرْتَجِيًا فَيْضَ العَطَاءِ مِنَ الرَّحْمَنِ مَأْمُولاَ
عَشْرًا أَلُومُ بِهَا نَفْسِي وَأَنَدُبُهَا إِنْ لَمْ يُرَ القَلْبُ بِالطَّاعَاتِ مَصْقُولاَ
عَشْرًا أَلُومُ بِهَا نَفْسِي إِذَا انْصَرَمَتْ وَكُنْتُ فِي صَفَدِ اللَّذَّاتِ مَغْلُولاَ
عَشْرٌ كِرَامٌ وَأَفْضَالٌ مُضَاعَفَةٌ بِهِنَّ أَقْسَمَ رَبُّ العَرْشِ تَبْجِيلاَ
عَشْرٌ رُبَى اليُمْنِ وَالـخَيْرَاتِ زَيَّنَهَا يَوْمَانِ قَدْ فُضِّلاَ بِالأَجْرِ تَفْضِيلاَ
يَوْمٌ عَلَى عَرَفَاتِ الـخَيْرِ حِينَ دَعَا مَنْ كَانَ فِي سَاحِهِ الغَرَّا قَنَادِيلاَ
وَمَنْ يُصَلِّي وَحَجَّ البَيْتَ مُحْتَسِبَا وَمَنْ تَقَرَّبَ تَكْبِيرًا وَتَهْلِيلاَ
وَيَوْمُ أَضْحَى سُرُورُ الطَّائِعِينَ وَمَنْ قَدْ كَانَ إِخْلاَصُهُ فِي الذَّبْحِ مَبْذُولاَ
يَا مُدْرِكَ العَشْرِ قَدْ أَدْرَكْتَ مَكْرُمَةً تَتْرَا فَضَائِلُهَا كَالـمُزْنِ مَهْطُولاَ
فَاخْطُبْ مَآثِرَهَا الـحَسْنَا بِمَهْرِ تُقى وَلاَ تَكُنْ عَنْ بَنَاتِ الـحُسْنِ مَشْغُولاَ
وَجِدَّ فِي السَّيْرِ لِلْعَلْيَاءِ مُقْتَفِيًا قَوْمًا كِرَامًا وَأَسْيَادًا بَهَالِيلاَ
وَرَوِّ نَفْسَكَ خَيْرَ الزَّادِ إِنَّ غَدًا تَلْقَى ثَوَابَكَ عِنْدَ اللهِ مَكْفُولاَ