واحة الأدب

الفرزدق والذئب

ورد في الأغاني أن ابنة عم الفرزدق، النوار، خطبها رجل، فطلبت من الفرزدق – ابن عمها أن يكون وليّها، فطلب منها أن تُشهد الناس أنّه وليُّها، فوافقت وأشهدَتهم أنّه وليّها، فقال: “اشهدوا أنني زوجت النوار من نفسي” فغضبت النوار، وهربت منه إلى الزبير، وكان واليا على الحجاز والعراق، واستجارت به فاحتال الفرزدق حتى أعادها، وتزوّجها، ويبدو أنّه لم يسعد معها، فقد تزوّج عليها امرأتين، وتزايد نشوزها إلى أن طلقها، وكانت امرأة ذات دين وخلق ساهما في ابتعادها عنه –فقد عُرف عنه التهاون فيهما- ويظهر أنها كانت تتعالى عليه، وهي عنده، وعندما هربت منه، ثم عندما طلّقها وندم ندما شديداً، فأنشد:

ندمت ندامة الكسعيّ لمّـا            غدَتْ مني مطلقةً نوارُ

لن نتحدث عن نوار فقصتها معروفة لكننا نقف على مقدمة القصيدة الغريبة التي لم يعتد النقاد على مثلها، هذه المقدمة كانت في تصوير الفرزدق موقفاً لم يكن يريده -ولربما اصطنعه لأمر في نفسه- حينما فرض أحد الذئاب الجائعة نفسه عليه يريد التهامه أو مشاركته في الشواء الذي جذبته رائحته من بعيد، وساعد على ذلك نار الشواء في هذه البرية الصحراوية المظلمة.

ولعله -إن تقرأِ القصيدة- يريد أن يقول: إن النوار والذئب كانا من أهل الغدر، فقد فتح قلبه لهما، فكانا غادرين لم يرعيا عهده.

وسواء كانت قصته مع الذئب حقيقية أم غير ذلك –من بنات خياله– فقد كانت رائعة ذات صور تقليدية، وذات صور مرسومة ممتدة تعتمد على (الكلمات واللون والصوت والرائحة) الأبيات:

وأطلس عسال وما كان صاحبا       دعـَوت بنـاري مـَوهِـنا فأتـاني

فلما دنـا قلت ادن، دونـك، إنّني      وإيـاك في زادي لـمشـتـركـان

فـَبـِتّ أقـُدّ الـزاد بـيـني وبـيـنــه      على ضَـوء نـارٍ مـرّة ودخـان

فقـُلـت لـه لـمّـا تكشّـر ضاحكـا       وقائـم سـيـفي من يدي بمكـان

تعـشّ فإن عاهدتني لا تخـونني      نكن مثل من يا ذئب يصطحبان

وأنت امرؤ يا ذئب والغدر كنتما       أخـَيـّيـْن كـانـا أرضِعـا بـِلـَبـان

ولو غيـْرَنـا نبّهـتَ تلتمس القـِرى      أتـاك بسـهـم أو شـَبـاة سـِـنـان

وكلّ رفيـقـَي كلّ رحل وإن هما      تعـاطى القنـا قوماهما أخـَوان

وإنـا لـَتـَرعى الـوحـشُ آمنـةً بنا       ويرهبنا -إن نغضبِ- الثقلان

مناظرة بين الهواء والماء

الحمد لله الذي رفع فلك الهواء على عنصر التراب والماء “أما بعد” فأنا (الهواء) الذي أؤلف بين السحاب وأثقل نسيم الأحباب وأهب تارة بالرحمة وأخرى بالعذاب وأنا الذي سير بي الفلك في البحر كما تسير العيس في البطاح وطار بي في الجو كل ذي جناح وأنا الذي يضطرب مني الماء اضطراب الأنابيب في القنا إذا صفوت صفا العالم وكان له نضرة وزهو وإذا تكدرت انكدرت النجوم وتكدر الجو لا أتلون مثل الماء المتلون بلون الإناء: لولاي ما عاش كل ذي نفس ولولاي ما طاب الجو من بخار الأرض الخارج منها بعد ما احتبس ولولاي ما تكلم أدمي ولا صوت حيوان ولا غرد طائر على غصن بان ولولاي ما سمع كتاب ولا حديث ولا عرف طيب المسموع المشموم من الخبيث، فكيف يفاخرني الماء الذي إذا طال مكثه ظهر خبثه وعت فوقه الجيف وانحطت عنده اللآلئ في الصدف.

فقال (الماء) الحمد لله الذي خلق كل حي (أما بعد): فأنا أول مخلوق ولا فخر وأنا لذة الدنيا والآخرة ويوم الحشر وأنا الجوهر الشفاف المشبه بالسيف إذا سل من الغلاف، وقد خلق الله في جميع الجواهر حتى اللآلئ والأصداف، أحيي الأرض بعد مماتها وأخرج منها للعالم جميع أقواتها وأكسو عرائس الرياض أنواع الحلل وأنثر عليها لآلئ الوبل والطلل حتى يضرب بها في الحسن المثل كما قيل:

إن الــســـمـــاءَ إذا لـــم تبـــك مقـــلتهــا             لم تضحك الأرض عن شيء من الزهر

فكيف ينكر فضلي من دب أو درج وأنا البحر الذي قيل عنه في الأمثال (حدث عن البحر ولا حرج) وأما أنت أيها الهواء فطالما أهلكت أمماً بسمومك وزمهريرك ولا تقوم جنتك بسعيرك.

وأما قولك لولاي ما عاش إنسان ولا بقي على الأرض حيوان فجوابه “لو شاء الله تعالى لعاش العالم بلا هواء كما عاش عالم الماء في الماء” وأنشدك الله أما رأيت ما حباني الله به من عظيم المنة حيث جعلني نهراً من أنهار الجنة أنا أرفع الأحداث وأطهر الأخباث وأجلو النظر وأزيل الوضر أما رأيت الناس إذا غبت عنهم يتضرعون إلى الله بالصوم والصلاة والصدقة والدعاء ويسألونه تعالى إرسالي من قبل السماء واعلم أنني ما نلت هذا المقام الذي ارتفعت به على أبناء جنسي إلا بانحطاطي الذي عيرتني به وتواضعي وهضم نفسي.

وكثر بينهما النزاع والجدال حتى حكم بينهما أمير وقال: إن كلاً منكما محق فيما أشبهكما في السماء بالفرقدين وفي الأرض بالعينين إلا أن مرآة الحق أرتني فضيلة تفضل بها أيها الماء أخاك الهواء وحققت لي بأنكما لستما في الفضل سواء وهي (أن الله تعالى خلق آدم من الماء) فاعترف لأخيك بالفضل والذكاء.

جواهر الأدب

وهذه أوصاف بليغة في البلاغات، على ألسنة قوم من أهل الصناعات

اجتمع قوم من أهل البلاغات، فوصفوا بلاغاتهم عن طريق صناعاتهم:

فقال الجوهري: أحسن الكلام نظاماً ما ثقبته يد الفكرة، ونظمته الفطنة، ونضد جوهر معانيه في سموط ألفاظه، فاحتملته نحور الرواة.

وقال العطار: أطيب الكلام ما عجن عنبر ألفاظه بمسك معانيه؛ ففاح نسيم نشقه، وسطت رائحة عبقه؛ فتعلقت به الرواة، وتعطرت به السراة.

وقال الصائغ: خير الكلام ما أحميته بكور الفكرة، وسبكته بمشاعل النظر، وخلصته من خبث الإطناب، فبرز بروز الإبريز في معنىً وجيز.

وقال الصيرفي: خير الكلام ما نفدته يد البصيرة، واجتلته عين الروية، ووزنته بمعيار الفصاحة، فلا نظر يزيفه، ولا سماع يبهرجه.

وقال الحداد: خير الكلام ما نصبت عليه منفخة الروية، وأشعلت فيه نار البصيرة، ثم أخرجته من فحم الإفحام، ورققته بفطيس الإفهام.

وقال النجار: خير الكلام ما أحكمت نجر معناه بقدوم التقدير، ونشرته بمنشار التدبير، فصار باباً لبيت البيان، وعارضةً لسقف اللسان.

وقال النجاد: أحسن الكلام ما لطفت رفارف ألفاظه، وحسنت مطارح معانيه؛ فتنزهت في زرابي محاسنه عيون الناظرين، وأصاخت لنمارق بهجته آذان السامعين.

وقال الماتح: أبين الكلام ما علقت وذم ألفاظه بكرب معانيه، ثم أرسلته بقليب الفطن، فمنحت به سقاءً يكشف الشبهات، واستنبطت به معنى يروي من ظمأ المشكلات.

وقال الخياط: البلاغة قميص فجربانه البيان، وجيبه المعرفة، وكماه الوجازة، ودخاريصه الإفهام، ودروزه الحلاوة، ولابسه جسد اللفظ، وروحه المعنى.

وقال الصباغ: أحسن الكلام ما لم تنصل بهجة إيجازه، ولم تكشف صبغة إعجازه، وقد صقلته يد الروية من كمود الإشكال، فراع كواعب الآداب، وألف عذارى الألباب.

وقال البزاز: أحسن الكلام ما صدق رقم ألفاظه، وحسن نشر معانيه، فلم يستعجم عنك نشر، ولم يستبهم عليك طي.

وقال الحائك: أحسن الكلام ما اتصلت لحمة ألفاظه بسدى معانيه، فخرج مفوفاً منيراً، وموشى محبراً.

وقال الرائض: خير الكلام ما لم يخرج عن حد التخليع إلى منزلة التقريب إلا بعد الرياضة؛ وكان كالمهر الذي أطمع أول رياضته، في تمام ثقافته.

وقال الجمال: البليغ من أخذ بخطام كلامه فأناخه في مبرك المعنى، ثم جعل الاختصار له عقالاً، والإيجاز له مجالاً، لم يند عن الأذهان، ولم يشذ عن الآذان.

وقال الطبيب: خير الكلام ما إذا باشر بيانه سقم الشبهة، استطلقت طبيعة الغباوة؛ فشفي من سوء التفهم، وأورث صحة التوهم.

وقال الكحال: كما أن الرمد قذى الأبصار، فالشبهة قذى الأبصار، فاكحل عين اللكنة بميل البلاغة، واجل رمص الغفلة بمرود اليقظة.

ثم قال: أجمعوا كلهم على أن أبلغ الكلام، ما إذا أشرقت شمسه، انكشف لبسه، وإذا صدقت أنواؤه، اخضرت أحماؤه.

وهذا المعنى كثير، وإنما نأخذ من كل فن اليسير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *