الدراسات النحوية في العدوتين (المغرب والأندلس)

بدأت الدراسات النحوية بالمشرق، كما هو معلوم، في زمن مبكر أيام الخلفاء الراشدين، وتوالت بعد ذلك إلى أن ظهر في البصرة الخليل بن أحمد الفراهدي في منتصف القرن الهجري الثاني، فوضع الأسس ونهج الطريق، تاركا أمر تدوين القوانين النحوية إلى تلميذه أبي عمرو بن عثمان سيبويه واضع “الكتاب” المشهور، وقد يكون هذا الكتاب من بين الأسباب التي أدت إلى احتدام الخصام بين المدينتين المتنافستين: البصرة والكوفة، ذلك الخصام الذي انجلى عن قيام مدرستين نحويتين، إحداهما، وهي مدرسة البصرة، تساندها الأصالة والمنطق، إذ وضعت قوانين عامة حسب مقاييس معقولة وأهملت الشواذ وما خالف الاستعمال المشهور عند جمهور العرب، فحصرت بذلك اللغة العربية في قوالب محكمة وصيغ مضبوطة يسهل -نسبيا- إدراكها، والثانية: وهي مدرسة الكوفة، ساندها البلاط العباسي وشد أزرها لأغراض لا علاقة لها بموضوع اللغة وقواعدها، هذه المدرسة الثانية ولو أنها اصطبغت في البداية بصيغة علمية محضة، فإنها تحولت إلى ما يشبه مسجد الضرار، خارمة القوانين اعتمادا على سماعات شاذة أو منحولة، وشعبت إلى حد كبير سبل تحصيل النحو، أو أفسدته على حد تعبير السيوطي.

ثم تدارس علماء بغداد بعد ذلك آراء المدرستين المتنافستين، فوازنوا واستظهروا، وخطئوا ورجحوا، ونتج عن ذلك ظهور مدرسة بغدادية جديدة، هي مزيج من مذهبي البصريين والكوفيين.
وقد تلقى الغرب الإسلامي قواعد اللغة العربية بمذاهبها الشرقية الثلاثة، عن طريق النحاة المهاجرين ومعظمهم جاءوا من بغداد، فاتخذوا من كتاب سيبويه أساسا للتعليم، لأنهم بدورهم أخذوه عن شيوخ بصريين أو مشايعين لمذهبهم، ولانتشار المدرسة البصرية في المغرب والأندلس، وسيادتها في العهود الأولى على ما عداها من المدارس النحوية أسباب يمكن إجمالها فيما يلي :
أولا: أن المذهب البصري أكثر أصالة ومنطقية وأقل تشعبا وتمحلا.
ثانيا: وجود كتاب سيبويه بين أيدي الناس، لا يزاحمه كتاب آخر للرؤاسي أو المسائي أو غيرهما من الكوفيين. والكل يعلم أن هؤلاء لم يؤلفوا ما يمكن أن يضاهي أو يقارب كتاب سيبويه، وإنما هي رسائل وكراريس لا تذكر أمام الكتاب.
ثالثا: مناصرة العباسيين لعلماء الكوفة، وإيثارهم بتعليم ولاة العهد وأبناء كبار رجال البلاط، جعل الناس في الغرب ينفرون من هذا المذهب بعد أن خاصموا خلافة بغداد وخلعوا طاعتها.
على أن ذلك كله لم يصرف علماء المغرب والأندلس نهائيا عن النظر في مسائل الخلافة، فتعرفوا على آراء مختلف الفرق، ونظروا بخاصة في القضايا التي أخذت على البصريين، فأثبتوا منها وأبطلوا، وانتقدوا بدورهم بعض آراء البصريين، ومسائل من كتاب سيبويه نفسه، وخرجوا هم أيضا بمدرسة نحوية جديدة، هي المدرسة المغربية الأندلسية التي تحدث عنها ابن خلدون في غير ما موضع من المقدمة.
وفيما يتعلق بالإقبال على دراسة اللغة العربية وقواعدها في الغرب الإسلامي، نلاحظ وجود نفس الظاهرة الشرقية المتجلية في وفرة العناصر الأعجمية الأصل من بين الدارسين، فكما كان سيبويه وابن درستويه الفارسيان مثلا من أعلام النحو العربي في الشرق، كان الجزولي وابن آجروم من برابرة السوس الأقصى من أئمة هذا الفن في الغرب.
وظلت كتبهم جميعا تقرأ وتشرح على تعاقب الحقب والأجيال، غير أن من المفارقات التي لا ينبغي إغفالها في هذا الباب، أنه إذا كانت العناصر غير العربية في الشرق، وبخاصة الفارسية قد أخذت تعود إلى لغتها الأصلية منذ زمن غير بعيد عن عصر سيبويه، فإن السوسيين في المغرب ظلوا يتعلمون لغة القرآن ويعلمونها ويؤلفون فيها مآت الكتب إلى اليوم. وقد نشر المختار السوسي رحمه الله منذ بضع سنوات تراجم علماء هذا الإقليم المغربي وآثارهم الضخمة في اللغة العربية وغيرها، في كتابين هامين، سوس العالمة، والمعسول، ويقع هذا الأخير في عشرين مجلدا.
من محاضرة للأستاذ محمد حجي ألقيت بالمؤتمر العالمي الذي أقامته جامعة بهلوي بشيراز لتكريم سيبويه بمناسبة مرور اثني عشر قرنا على وفاته، من 27 أبريل إلى 2 ماي 1974.
دعوة الحق العدد السابع السنة السادسة عشرة رجب 1394-غشت 1974

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *