ثـورة في الأدب ذ إبراهيم أبو الكرم

في الوقت الذي تصيح فيه الجماهير لإسقاط الفساد والاستبداد، والإطاحة بالظلمة والطغاة، ينبغي أن تنادي الأصوات الغيورة على الدين بإسقاط الأفكار الفاسدة التي تبث في الأمة تحت قصائد الشعر وروايات الأدباء، فالأدب كما قدمت في موضوع سابق يحتاج إلى مراجعات لينتخل من ذلكم الدخن الذي أدرجه بحلاوة ألسنهم أقماع الفكر الغربي.

فأدباؤنا أبناء جلدتنا صارت أشعارهم ورواياتهم لا تخلو من سخرية بمقدسات الدين الإسلامي، وقد بدأت هذه الظاهرة تعلو برأسها في القرن العشرين إبان ظهور زمرة من المذاهب الفكرية التي كان منشؤها الغرب، لينتقل إلى العرب عن طريق البعثات العربية إلى الغرب أساسا وباء الحداثة الذي جد في الساحة بعد مجموعة من المذاهب كالكلاسيكية والرومانسية وغيرها. والذي اتخذ الثورة على الأعراف والديانات سبيلا له لتحقيق التجديد المدعى، وللخروج عن النمطية كما يزعم، وللهجوم على كل ما هو محترم مقدس في الفكر الإنساني طريقا نحو الحرية زعموا، ونفضا لغبار التحجر والتقوقع.
وطفق حداثيو العرب يبحثون لهذا الفكر المستورد الدخيل عن جذور في التراث العربي، ولم يكن تراثنا ليخلو من دناسة بعض الأقلام التي تصدى لها العلماء بالرد أحيانا وبالتعنيف أخرى، بل حتى بالملاحقة من صلحاء الأمراء في أحايين عدة، فجد أهل الحداثة من عصرنا في البحث والتنقيب وتعلقوا بأذيال أصحاب الحلول والاتحاد والزندقة والمجون، فراحوا يطبلون لابن عربي والحلاج، وبشار وأبي نواس، وابن الراوندي والمعري وغيرهم كثير ممن بيّن العلماء عوارهم، وأخذ منهم السيف حقه في العديد من المرات.
عفواً لسنا من أصحاب الإقصاء، فذلك تراثنا ونحن أهله، لكن القبيح في الأمر أن نتجاهل ما خرجت فيه الأقلام عن جادة الصواب، وما جنت فيه على الدين ومبادئه، بل الأمر بالعكس فقد صارت تلك العيوب المعيبة على أولائك مُثلا تحتدى، وتنتهج في التأليف والنظم، وصار الساخر بالدين والمقدسات هو الشاعر الفحل، والراوي المجيد، والكاتب البارع، وكم درسنا في كلياتنا عن كثير ممن جنوا على ديننا ولم نعرج على ذلك بتاتا، ويظل أساتذتنا سامحهم الله يجلون ويعظمون ويبجلون، هذا وذاك من أولئك الأقماع، وتمر أفكارهم إلى الطلبة البريئين، عن طريق تذوق جمالية شعر هذا، والانبهار برواية هذا، غير نابهين بما في العسل من سم، حتى ولو ناقشت أستاذا أو طالبا في مسألة خرج فيها الأديب عن مبادئنا العقدية أو الأخلاقية جاءت التآويل بحبالها لتلوى على الطالب الناقد، وصُبت عليه أنواع الاتهامات كالاهتمام بالقشور، أو عدم القصد، أو قلة الفهم، أو غير ذلك، وينتهي الفصل والطلبة قد أشربت قلوبهم حب الشاعر فلان، والأديب فلان، ويضفي عليه من حلل الثناء والتبجيل والتعظيم ما لا يضفيه على الصحابة الأخيار والسلف الأطهار.
فما أجمل أن يدرس تراثنا على ضوء ديننا الحنيف، وأن تجعل مبادئه تضبط لكل فكر مهما حسن قالبه، وأبهرنا شكله ولفظه، فلو أخذنا مثلا منهج المعري في شعره، كان الأحرى أن ينبه على تلكم الزاوية المظلمة من حياته وفكره، ويدرس ذلك دراسة جادة منصفة ناقدة مدققة، لا أن نتجاهل مواضع زللـه. وكيف أثر ذلك في شعره حتى يكون الطالب على بينة من أمره، ولا يتأثر بما يشين دينه. وهكذا.
وحتى ولو أن تراثنا تقدمت فيه نماذج من ذوي الأفكار الفاسدة، والتي تلتقي أحيانا كثيرة مع الفكر الحداثي الجديد، فإن بعض الحداثيين يأبون الرجوع إليها ما دام الغرب قد وضع أمامهم مادة العمل، وخط لهم نهج المسير.
فقد نقل صالح جواد في مجلة فصول المجلد الرابع، العدد الرابع، صفحة 17، عن جبرا إبراهيم جبرا من كتابه “الرحلة الثامنة” قوله : “حركة الشعر الجديد متصلة بحركة الفن الحديث في أوروبا، أو قل في العالم كله أكثر من أي شيء آخر بغير مواربة.. ومن العبث أن نستشهد بالقدامى، ونستند في أحكامنا إلى سوابق لن تجدها في كتب الأدب التي وضعت قبل بضعة قرون على الأقل”.
يقول غالي شكري الشيوعي المصري وأحد منظري ورموز الحداثة العربية في كتابه “شعرنا الحديث إلى أين” صفحة 116: “إن المفاضلة بين الشعر التقليدي والشعر الحديث، تصبح غير ذات موضوع ، لأنهما لا يملكان في حقيقة الأمر من عناصر الأرض المشتركة سوى اللغة، كما أن محاولة تبرير الشعر الحديث بميراثنا التاريخي، من حركات التجديد في الشعر العربي، هي محاولة غير مجدية، بل أصبحت ضارة إلى حد ما، فالنقد الحديث الذي يود أن يرافق شعراءنا الجدد، عليه أن يلتفت إلى جوهر القصيدة الغربية الحداثية إذا أراد أن يكتشف جوهر القصيدة العربية الحديثة”.
وهذا محمد برادة يكتب مقالا في مجلة فصول، المجلد الرابع، العدد 3 صفحة 11 بعنوان “اعتبارات نظرية لتحديد مفهوم الحداثة” يؤكد فيه بأن الحداثة مفهوم مرتبط أساسا بالحضارة الغربية وبسياقاتها التاريخية وما أفرزته تجاربها في مجالات مختلفة، ويصل في النهاية إلى أن الحديث عن حداثة عربية مشروط تاريخياً بوجود سابق للحداثة الغربية وبامتداد قنوات للتواصل بين الثقافتين.
والواقع أعظم شاهد على أن الحداثة العربية ابن غير شرعي للمفكرين الغربيين، منذ بودلير، وإدجار ألن بو، حتى يومنا هذا ويكفيك للتأكد من ذلك أن تتصفح أي منشور حداثي: شعر أو رواية أو مسرحية أو قصة أو دراسة نقدية، لتجدها تصرخ بقوة وتعلن أنها من نبات مزابل الحي اللاتيني في باريس، أو أزقة سوهو في لندن، عليها شعار الشاذين من أدباء الغرب الذين لا يكتبون أفكارهم إلا في أحضان المومسات أو أمام تمثال ماركس.
وتتوالى الاعترافات لنجد غالي شكري يقول: “وعندما أقول الشعراء الجدد، وأذكر مفهوم الحداثة عندهم.. أتمثل كبار شعراء الحركة الحديثة من أمثال: أدونيس، وبدر شاكر السياب، وصلاح عبد الصبور، وعبد الوهاب البياتي، وخليل حاوي.. عند هؤلاء سوف نعثر على إليوت، وإزرا باوند، وربما على رواسب من رامبو، وفاليري، وربما على ملامح من أحدث شعراء العصر في أوربا وأمريكا، ولكنا لن نعثر على التراث العربي”.
ورغم الاختلاف بين الكثير ممن أرخوا للحداثة الأوربية حول بدايتها الحقيقية وعلى يد من كانت، فإن الغالبية منهم يتفقون على أن تاريخها يبدأ منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادي على يدي بودلير، وهذا لا يعني أن الحداثة قد ظهرت من فراغ، فإن من الثابت أن الحداثة رغم تمردها وثورتها على كل شيء، حتى في الغرب، فإنها تظل إفرازاً طبيعياً من إفرازات الفكر الغربي، والمدنية الغربية التي قطعت صلتها بالدين على ما كان في تلك الصلة من انحراف، وذلك منذ بداية ما يسمى بعصر النهضة في القرن الخامس عشر الميلادي، حين انفصلت المجتمعات الأوربية عن الكنيسة، وثارت على سلطتها الروحية التي كانت بالفعل كابوساً مقيتاً محارباً لكل دعوة للعلم الصحيح، والاحترام لعقل الإنسان، وحينها انطلق المجتمع هناك من عقاله بدون ضابط أو مرجعية دينية، وبدأ يحاول أن يبني ثقافته من منطلق علماني بحت فظهرت كثير من الفلسفات والنظريات في شتى مناحي الحياة.
وطبيعي ما دام لا قاعدة لهم ينطلقون منها لتصور الكون والحياة والإنسان، ولا ثابت لديهم يكون محوراً لتقدمهم المادي، ورقيهم الفكري والحضاري، أن يظهر لديهم كثير من التناقض والتضاد، وأن يهدموا اليوم ما بنوه بالأمس ولا جامع بين هذه الأفكار إلا أنها مادية ملحدة، ترفض أن ترجع لسلطان الكنيسة الذي تحررت من نيره قبل ذلك.
وبتصفح حياة أستاذ الحداثيين شارل بودلير، نجد أنه انتهج خطى أستاذه الأمريكي إدغار الذي نادى بأن يكون الأدب كاشفاً عن الجمال، ولا علاقة له بالحق والأخلاق، وبالفعل كانت حياته لا علاقة لها بالحق ولا الأخلاق ولا الجمال أيضاً وكذلك شعره وأدبه؛ فقد كانت حياته موزعة بين القمار والخمور، والفشل الدراسي والعلاقات الفاسدة، ومحاولة الانتحار بالأفيون، حتى قيل عنه عند موته في إحدى الصحف الأمريكية كما في (ثلاثة قرون من الأدب) 1/190: “ومما يبعث الأسى لموته، هو -قبل كل شيء- الاعتراف بأن الفن الأدبي قد فقد نجماً من أسطع نجومه ولكن من أمعنهم في الضلال”.
وعلى خطى إدغار سار تلميذه بودلير أستاذ الحداثيين، ممعنا في الضلال، وبعيداً عن الحق والأخلاق. وكان يعتبر عميد الرمزية والخطوة الأولى للحداثة من الناحية الأدبية على الأقل، وإلا فهناك روافد أخرى ساهمت في تشكيل الحداثة. وقد نادى بودلير بالفوضى في الحس والفكر والأخلاق كما يقول إحسان عباس في فن الشعر صفحة 64.
فهؤلاء هم مُثل أدباء الحداثة عندنا، وهؤلاء هم قدوتهم الذين يقتدون بهم، ويفخرون بهم في المجالس والندوات. ويظل العرب مجترين لزبالات أفكار الغرب، مدعين الحرية والإبداع، منغمسين في أخبث أنواع التقليد، وتظل الصحف العربية، والمجلات الأدبية، تستهلك دون سؤال عن المصدر والمنبع ولا عن مرجعية هذا الشاعر، أو فكر هذا الروائي، ويبقى الناقد في الحاشية منبوذا، كأنما طعن في القرآن أو في السنة. هذا حال أمتنا، وهذه هي الحداثة المزعومة.
إن زعماء الحداثة يصرخون بكل جراءة ووقاحة بمراجعة التراث وقراءته بأفكارهم، في محاولة لإشكاك الناس في دينهم، وزعزعة معتقدهم، وتحطيم القدسية المحيطة بالقرآن والسنة، لقد آن الأوان أن تقوم ثورة على هؤلاء لمحاسبة إنتاجهم، وكشف سمومهم، وإظهار حقيقتهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *