فقد اتَّـخَذ النحاةُ الشِّعرَ والرَّجَزَ -خَاصَّة- وسيلةً لاختصار القواعد النحوية لتقريبها بين يدي الطُّلاَّب، وتسهيلِ حفظها. ومن بين تلك المنظومات التي ظَلَّت في طَيِّ النسيان: منظومةُ الأديب حَازم القَرْطَاجَنِّي رحمه الله.
نبذة عن حياة حازم:
هو حازم بن محمّد بن حسن بن محمّد بن خلف بن حازم الأنصاري القرطاجي النحوي أبو الحسن شيخ البلاغة والأدب، قال أبو حيان: كان أَوْحَد زمانه في النظم والنثر والنحو واللغة والعروض وعلم البيان.
روى عن جماعة يُقَاربون الأَلْف، وروى عنه أبو حيان الأندلسي وابن رُشَيد الفهري وجماعة، وذَكَرَه ابن رُشَيد في رحلته فقال: حَبر البلغاء وبحر الأدباء ذو اختيارات فائقة واختراعات رائقة، لا نعلم أحدا مِـمَّن لقيناه جَمَع من علم اللسان ما جمع، ولا أَحْكَم من مَعَاقِد علم لبيان ما أَحْكَم من منقول ومبتدع، وأما البلاغة فهو بحرُها العذبُ والمتفردُ بِحَمل راياتِها، يـجمع إلى ذلك جودةَ التصنيف وبراعةَ الخط، ويضربُ بسهم في العقليات، والدِّرَايةُ أغلبُ عليه من الرواية.
وُلِد سنة ثمانٍ وستمائة بقرطاجَنَّة الأندلس، وهي من سواحل كُورَةِ تَدْمِير في الجانب الشرقي من الأندلس، ومات ليلة السبت الرابع والعشرين من رمضان سنة أربعٍ وثمانينَ وستمائة.
قال الـمِقَّرِي في أزهار الرياض: “وهو خَاتِمة شعراء الأندلس الفحول، مع تقدمه في معرفة لسان العرب وأخبارها، ونزل إفريقية بعد خروجه من بلده فَطَار بها صِيته، وعَمَّرَ إلى أنْ مات بتونس”.
ومن تصانيفه: سراج البلغاء في البلاغة، وكتاب في القوافي، والقصيدة الميمية في النحو، وله مقصورة مشهورة في مدح الأمير أبي عبد الله المستنصر.
آثار حازم النحوية:
1. رسالة في الرد على كتاب: المقرِّب في النحو لابن عُصفور كما أشار إلى ذلك صاحب نفح الطيب.
2. القصيدة الميمية في النحو، وقد نظمها من بحر البسيط على خلاف باقي المنظومات المشتهرة في علم النحو فإن معظمها من بحر الرَّجَز، وهي منظومة حُلْوة الألفاظ بديعة المعاني رَصِينَةُ البناء سَهْلَة الـمَأخَذ، بعيدةٌ عَن التَّقَعُّر والتَّعْقيد.
وقد قام بطبعها الأستاذ عثمان العكَّاك سنة 1966م، وألحقها بآخر ديوان حازم، ومجموع ما انتهى إليه من أبياتها: 217 بيتا، ثم جاء بعده الدكتور محمد الحبيب بلخوجة فأعاد تحقيق القصيدة على نسخة خطية فاستدرك على الطبعة السابقة بيتين، فصار مجموع أبيات الميمية: 219 بيتا.
منزلة الميمية عند علماء النحو:
هذه القصيدة وإن ظلت مغمورة لم يُكتب لها الذيوع والانتشار كما كتب لأخواتها؛ إلا أنها نالت إعجاب جماعة من اللغويين والنحاة، وتلقفوها بعين القبول والرضا، واقتبسوا منها ما أودعوه في مصنفاتهم.
ويقال: إن أول من أشار إليها هو ابن هشام الأنصاري في كتابه مغني اللبيب، فقد أورد منها أبياتا وهو في معرض الحديث عن “إذ” الفجائية؛ قال رحمه الله: “ولقد أحسن الإمام الأديب أبو الحسن حازمُ بن محمد الأنصاري القرطاجَنّي إذ قال في منظومته في النحو حاكياً هذه الواقعةَ والمسألةَ:
والعُربُ قدْ تَحْذِفُ الأَخْبَارَ بَعْدَ إِذَا إِذَا عَـنَوا فَجْأَةَ الأَمْرِ الَّذِي دَهَمَا
إلى أن ذكر منها أربعة عشر بيتا.
قال السيوطي في البغية: “و[له] قصيدة في النحو على رَوِيِّ الميم، ذكر منها ابن هشام في المغني أبياتا في المسألة الزنبورية”.
منهج حازم في هذه القصيدة:
قد صَدَّرَ حازم منظومته هذه بحمد الله تعالى والصلاة على نبيه صلى الله عليه وسلم على غرار ما يصنعه أصحاب المنظومات.
ثم انتقل إلى مدح أمير تونس آنذاك أبي عبد الله المستنصر، فأشاد بالنعم التي أغدقها على قُصَّاد تونس.
ثم تحدث عن صناعة النحو وتعرض لمباحثه المختلفة؛ فذكر حد الكلام وتحدث عن ماهية النحو وعوامل الرفع والنصب والخفض، ثم بين رافعات وناصبات وخافضات الأسماء، ثم خلص من الأسماء إلى الأفعال فتحدث عن أحكامها رفعا ونصبا وجزما، ثم ذكر الجملة الاسمية ونواسخها، والمواطن التي يسوغ فيها الابتداء بالنكرة، ثم ختم قصيدته بذكر المسألة الزنبورية التي وقع فيها النزاع بين سيبويه والكسائي.
وكثيرا ما يرجح مذهب البصريين ويَـحذو حذوهم، وله اختارات كوفية نادرة.
القيمة العلمية للقصيدة:
هذه القصيدة لها قيمة تعليمية كبرى، فهي وإن لم تبلغ الألفَ بيتٍ كما هو الشأن بالنسبة لألفية ابن مُعْط وابن مالك والسيوطي وغيرهم، إلا أنها استطاعت أن تكون لبنةً في صرح علم النحو الذي يعد مفتاح سائر العلوم، وإسهَاماً في إثراء وإغناء الدراسات النحوية.
وقد امتازت هذه القصيدة بـمحاسن منها:
1. أنها جاءت مختصرة مُقْتَصِرَة على أكثر الأبواب النحوية استعمالا، وكَأَنَّ حازما أراد أن يجعل منها مرجعا يتدارسه المتعلمون من رواد اللغة العربية والراغبون في التأدب بآدابها.
2. أنها اقتصرت في الغالب على الأشهر من الآراء، ولم تتشعب في إيراد الخلافات النحوية إلا في القليل النادر.
3. أن حازما أضفى عليها مُسْحة أدبية أكسَبَتْهَا جمالا وبَهاء، فشَاعِرِيَّـتُه تَجلت واضحة بين جنباتِها، فلا يكاد يخلو بيت من أبياتها من نفحة الأديب المرهف الحس الذي تُسعِفه قريحته على أن يُذِيب قواعد النحو الجافة في قوالبَ شِعْرِيَّةٍ أخَّاذَة.
فقد خرج حازم عن نهج سابقيه من أصحاب المنظومات، فسعى إلى ابتكار نهج جديد في فن النظم التعليمي يجمع بين القاعدة النحوية وبين الأسلوب الأدبي البديع الذي تلج دُرَرُ كَلِمِه أصْدَاف الآذان من غير استئذان، بخلاف أساليب المنظومات المتقدمة التي يغلب على أكثرها جفاف الألفاظ وتعقيد المعاني.
فهو مثلا حين تناول مبحث: إِنَّ وأخواتِها قرر كون مشابـهتها للأفعال في أسلوب شعري بديع فقال:
فَإِنَّ أَنَّ لَهَا أُخْـتٌ مُذِ ارْتَضَعَا *** ثَدْيَ الـتَّشَبُّهِ بِالأَفْعَالِ مَا فُطِمَا
ومَثَّلَ للأفعال المتعدية بقوله:
فَبَابُ أَعْطَى كَـسَا مِنْهُ أَتَى وَسَقَا *** كَمَا تَقُولُ: “سَقَاكَ اللهُ صَوْبَ سَمَا”
وَمِنْهُ أَوْلَى، وَآتَى مِـثْلُ قَـوْلِهِمُ *** “أَوْلاَكَ رَبِّي نَعِيمَ العَيْشِ وَالـنِّعَمَا”
كَمَا تَقُولُ لِمَنْ تَهْـوَى النَّعِيمَ لَهُ *** “أَنَالَكَ النِّعَمَ الــوَهَّابُ وَالنَّعَمَا”
وقال في باب كان وأخواتِها:
كَمِثْلِ كَانَ، وَأَضْحَى، ثُمَّ أَصْبَحَ، أَوْ *** أَمْسَى، كَقَوْلِكَ: “أَضْحَى الزَّهْرُ مُبْتَسِمَا”
وَبَاتَ، أَوْ صَارَ، أَوْ ظَلَّ، الثَّلاَثَةَ صِلْ *** بِهَا؛ كَقَوْلِكَ: “ظَــلَّ الغَيْمُ مُرْتَكِمَا”
وَعُدَّ مَا دَامَ مِنْهَـا، نَحْوُ قَوْلِكَ: “لاَ *** أَسِيرُ مَا دَامَ حَرُّ القَيْـــظِ مُحْتَدِمَا”
وَكُلُّ فِعْــلٍ غَدَا إِيــجَابُهُ سَلَبَا، *** وَالنَّفْيُ فِيهِ وُجُوبٌ بَعْـــدَ لَيْسَ وَمَا
تَقُولُ: “مَا زِلْتَ مِفْضَالاً، وَمَا بَرِحَتْ *** مِنْكَ السَّـجَايَا تُوَالِي الْجُودَ وَالكَرَمَا”
وَ”لَسْتَ تَنْفَكُّ مِحْـسَاناً وَمَا فَتِئَتْ *** يُمْنَـــاكَ آسِيَةً بِالْجُودِ مَنْ كُلِمَا”
وقال في باب الأسماء الخمسة:
تَقُولُ: “عَمْرٌو أَبُوهُ أَوْ أَخُـوهُ أَتَى *** فَافْتَرَّ فُوهُ مِــنَ السَّرَّاءِ وَابْتَسَمَا
وَخَوْلَةٌ هَامَ ذُو مَالٍ بِــهَا وَصَبَا *** وَجْداً فَغَارَ حَمُوهَا مِنْهُ وَاحْتَشَمَا”
وقال أيضا:
وَجُمْلَةُ الفِعْـلِ فِي الأَخْـبَارِ وَاقِعَةٌ *** تَقُولُ: “صَوْبُ الْحَيَا مِنْ جُودِكَ احْتَشَمَا”
وَجُمْلَةُ الشَّــرْطِ مِمَّا يُخْبِرُونَ *** بِهِ تَقُولُ: “زَيْـــدٌ مَتَى مَا يَقْتَدِرْ رَحِمَا”
وقد قام الأستاذ بنيونس الزاكي بضبط أبيات هذه المنظومة وشَرْحِهَا شَرْحاً وَافياً في كتاب أسماه: “إتحاف الحازم بشرح منظومة حازم”، طبع بدار طيبة طَبعَـتَه الأولى سنة 1414هـ.
هذا ما تيسر جمعه في هذه المسألة، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
المصادر والمراجع:
– بغية الوعاة في طبقات اللغويين والنحاة للسيوطي (1/491-492).
– أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض للمَقَّرِي (3/171-173).
– منهاج البلغاء وسراج الأدباء لحازم القرطاجني (ص: 37).
– نفح الطيب عن غصن الأندلس الرطيب للمقري (2/208-209).
– مغني اللبيب عن كتب اللغة والأعاريب (ص: 123).
– ديوان حازم القرطاجني، تحقيق عثمان العكَّاك (ص: 123-132).
– إتحاف الحازم بشرح منظومة حازم، شرح: بنيونس الزاكي (ص: 17-40).