الحايك التطواني.. من غرناطة إلى تطوان ذ.طارق حمودي

حينما نزح الغرناطيون وبعدهم غيرهم إلى أرض الإسلام جنوب المتوسط نقلوا معهم ما كان من دينهم وحضارتهم.. فانتشلوا بعض فصلات الخير من أرض إسبانيا وغرسوها في بلاد المغرب غالبا.. فأزهرت وأينعت استمرارا للحضارة الأندلسية.. في بلاد المغرب.

ومن ذلك ولا عجب.. انتقال فصلة الحياء المغربي الأندلسي معهم.
لما سألت شيخنا بوخبزة مرة عن أصل الحايك التطواني لباس النساء في مدينتي نبهني إلى أن أصوله غرناطية.. كما كانت أصول تطوان …أخت غرناطة..!
فتعجبت ..وفرحت!
وكانت عيني بعدها تجوب صفحات الكتب التاريخية بحثا عن واحة أظفر فيها ببعض ما يطمئن قلبي.
تختلف مسميات الحايك في تطوان باختلاف نوعية ثوبه وسن من يلبسه كما تجده مذكورا في عمدة الراوين في أخبار تطاوين لشيخ شيخنا الرهوني رحمه الله.
فهناك المحربل والمعربط؛ وحدثني شيخنا بوخبزة عن بولهوان وحايك السكر..!
وكان يختلف من طبقة اجتماعية إلى أخرى؛ وتلبس الفتيات ما لا يلبسه النساء المتزوجات.
واللافت في طريقة لبس كثير من النساء له أنهن كن يغطين عينا ويبدين أخرى. شيء يذكرك بتفسير عبيدة السلماني.
وهنا توقفت.. فقد تذكرت مرة ما قرأته في البحر المحيط في التفسير لأبي حيان الأندلسي المتوفى سنة (745هـ/1344م).
فإنه قال في البحر (7/240): (وكذا عادة بلاد الأندلس لا يظهر من المرأة إلا عينها الواحدة).
كان الأمر بالنسبة لي مدهشا..!
ولن يكون هذا مستغربا إن تأملت في صورة منقوشة بمقر دفن الملكين الكاثوليكيين في غرناطة والتي نقش عليها صور نساء أندلسيات ربما موريسكيات بالحايك الأندلسي وهن يغطين وجوههن والرهبان يدفعونهن دفعا للتعميد.. التنصير القسري في زمن محاكم التفتيش.
وعدت أنظر في صور قديمة بالأسود والأبيض لنساء تطوانيات بالحايك.. عند أبواب المدينة وفي أزقتها القديمة.. بعدسات استعمارية إسبانية..!
تأكدت حينها أن هذا من ذاك.. وأن الخير لا ينقطع عن مصادره!
ولا تزال أخت أخرى لغرناطة في جبال شمال المغرب محتفظة ببعض ذلك.. وهي شفشاون أو الشاون.
فالمدينة أندلسية خالصة.. بخلاف تطوان.. فقد كانت موجودة قبل ذلك.
كان هذا قصارى ما قد أكتبه لولا ما حصل بعد ذلك..!
كنت أبحث مرة عن شيء ما.. في مكان ما.. باللغة الإنجليزية.. ربما عن كتاب أو مقال.. لا أتذكر. وعجيب أن لا أتذكر..!
فوقعت عيني على موقع لأحد السائحات الإنجليزيات..!!
تحكي فيه ما رأته في أحد البلدات الإسبانية.. في جنوبها بالتحديد..!
في قرية اسمها: بيخير الحدود.. وأصلها كما تبين لي بعد: (قرية البشير). وهي قرية مرَّ بها طارق بن زياد في مسيرة الفتح.
تحكي السائحة في مدونتها عن صورة كبيرة ناتئة منحوتة من حجر على حائط لامرأة متجلببة بما يشبه الحايك الأسود! وقد غطت إحدى عينيها بثوبها..
تراجعت في كرسيّ مندهشا.. وتراخت قبضتي عن الفأرة.. وقد أصبت بذهول تاريخي.. وبرودة في أطرافي وبدأت أرتعش.. ارتعاشة إسلامية!
ولم يكن وصفها للمرأة المنحوتة هو الذي فعل بي هذا كله.. بل ما نقلته تلك السائحة من أبيات شعرية فوق المنحوتة.. وكان فيها مدح للحياء المغربي.
أهذه منحوتة لمسلمة أو نصرانية؟
لم يطل البحث عن الجواب كثيرا؛ فقد كتب عن هذه المرأة التي سموها: المرأة المحجبة في مقالات ولها قصة عجيبة في التراث الإسباني المسيحي.
بحثت مرة أخرى عن هذه السيدة على النت فازدادت رعشتي وقوي خفقان قلبي.
فقد كان للسيدة المحجبة أيضا تمثال في وسط القرية؛ صورة طبق الأصل للمرأة المسلمة الأندلسية.. ثم التطوانية في لباسها وحيائها المغربي.
وقد سألت بعض إخواننا من مدينة سبتة أن يتوسطوا لي في النظر إلى التمثال.. فكانت الواسطة صديقا نصرانيا وقف على التمثال ليوصل لي معلومة أخرى.
إن كان الشعر الذي كتب على اللوحة الأولى بالإسبانية القديمة فإن البيت الذي كتب تمجيدا لهذا التمثال عندهم كان بالإسبانية الحديثة.. وفيه إقرار للأبيات الأولى القديمة.
فلا زالت السيدة المحجبة رمزا للحياء عندهم.
قلت: هذا يعني أن النساء النصرانيات تأثرن بالمسلمات.. ولم أتردد في قبول هذه النظرية بعدما وجدت الكاتب الأمريكي المشهور جوزيف ماكيب يصرح بذلك في كتابه (مدنية المسلمين في إسبانيا) ترجمة شيخ شيخنا تقي الدين الهلالي رحمه الله.
بل صارت رمزا فنّيا عند بعض رسامي إسبانيا حين زين إحدهم إحدى لوحاته بصورة لخمسة منهن بادٍ حياؤهن. كيف لا وقد استمر لبسه هناك إلى حدود 1960 ميلادي!!
والآن لا يلبس إلا في الحفلات التراثية والأعياد!
وقد كنت كتبت مقالا عن هذا على النت. لكنني كتبته بسرعة خوف انفلات نشوة الفرح به في ذلك الوقت.
والآن أعيد كتابة شيء عنه بعدما استقر أثره في قلبي.
فإن كان الإسبان يمجدون سيدتهم المحجبة؛ فلماذا يحاربون النقاب اليوم؟
وإن كان الإسبان يعترفون أن الحياء مغربي وهو عندنا إسلامي؛ فما بال أناس مغاربة من جلدتنا يتكلمون بألسنتنا يستنكرون؛ وبعضهم يحارب هذا الحياء المغربي؟!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *