لا شك أن مصطلح “الترويع والصدمة” الذي استخدمه الاحتلال الأمريكي للعراق سنة 2003م وكان من ضحاياه نحو مليون عراقي، وتهجير نحو 4 ملايين نسمة، وتدمير البنية التحتية والأراضي الزراعية والإرث الثقافي للعراق، قد فعل فعله من قبل في الأمة، وتولد عن ذلك ظهور التيار الحداثوي التغريبي، فقد بدأ عصر النهضة الأوربية، في وقت كانت الأوضاع في البلاد الإسلامية تسير نحو الانحدار، فلم يسهم المسلمون في أي من الاكتشافات الحديثة، من البخار والكهرباء واللاسلكي حتى السيارة والطائرة والكمبيوتر والإنترنت، فضلاً عن الصناعات العسكرية والذرة وعلوم البيولوجيا وكل المنجزات التكنولوجية الحديثة.
وقد تعرض المسلمون للغزو الغربي واحتلال أراضيهم وإذلال شعوبهم على يد الفرنسيين والبريطانيين والإيطاليين والهولنديين والإسبان والبرتغاليين والروس والصينيين، وأسهم ذلك في شعور كثير من المسلمين بالتخلف التقني، لكن النخبة المتغربة بدلاً من أن تسعى كما فعلت اليابان والصين بعد ذلك ثم الهند وكوريا الجنوبية وماليزيا الآن في كسب الخبرات التقنية، راحت تقلد الغرب في مظاهر حياته وبذخه ومباذله وحتى انحداره الأخلاقي، والذي فسر على أنه أحد مظاهر (الحداثة). بينما هو في الحقيقة أحد مظاهر الفراغ الناتج عن سقوط الكنيسة في الصراع الذي دار بين العقل الغربي والقيود الكنسية المخالفة للعقل والمنطق والبحث التجريبي. وظهرت إيديولوجية كاذبة ومتهافتة ومدمرة مفادها أن “الإنسان ينحدر أخلاقياً كلما تقدمت العلوم”.
وفي البلاد الإسلامية قلب الحداثيون المعادلة ولسان حالهم يقول “لكي تتقدم العلوم يجب أن ننحدر أخلاقياً”.
ومن المفارقات أن الحداثيين تدغدغهم أحلام مستحيلة، وتسكنهم أوهام اللحظة، وينتظرون أن ينتهي أمر الإسلام كما انتهى اليسار في صراعه مع الرأسمالية، أي انتهاء شريعة عمرها 15 قرناً، وأمة راسخة في قيمها، ومتشبثة بأرضها، وتتطلع لدورة حضارية جديدة تسود فيها من جديد.
لذلك رأينا من يدعو على فضائية تونس 7 إلى “فوضى أخلاقية”، ومن يدعو للقطع نهائياً مع التراث على فضائية “دبي” ومن دعت للحديث عن “زواج المرأة من 4 رجال” في فضائية إم بي سي. ولو عددنا الدعوات للانحدار تحت لافتة “الحداثة” لما كفانا هذا الحيز، وإنما هي نماذج للذكر لا الحصر. ولم نر في المقابل الحداثيين يتحدثون عن التقدم الصناعي والتقني عموماً، وتوطين التكنولوجيا. بل كل جهدهم مُنْصَبٌّ على محاربة قيم المجتمع، والعمل على تغريبها، وإغراق فكر المسلم في ثقافة الاستهلاك والتقليد الأعمى.
فالفوضى الأخلاقية هدفها تهيئة المجتمع لإعادة التشكيل كما لو كان صلصالاً، وليس لديه قيمٌ عليا لا يمكن للأغلبية أن تتعداها مهما بلغ الفرد من تهتك أخلاقي وخروج على الضمير الجمعي للأمة. فحتى الجماعات الصغيرة المنحدرة أخلاقياً والخارجة على ثوابت أمتها، تدرك أن هناك قيماً عليا، وأنها مخطئة في تجاوزها، وإذا ما شرعنت عملها باسم (الحرية) فترة فإنها ما تلبث أن تدرك أنها كانت على خطأ كبير.
والدعوة للقطع مع التراث تتطلع للبدء من الصفر وهو نوع من الهذيان، فالذين حاولوا في التاريخ البدء من الصفر تربعوا داخله ولم يجنوا من تصرفهم سوى قبض الريح. والتي دعت للحديث عن زواج المرأة من 4 رجال، تحلم بمجتمع مشاعي كالذي عمل “مزدك” لإقامته في إيران قبل 400 سنة من ميلاد المسيح عليه السلام والذي دعا إليه الشيوعيون بطريقتهم الخاصة. فالمجتمع الذي يقبل بزواج المرأة من 4 رجال لا يوجد سوى في ذهن تلك المريضة. فلا يوجد رجل في العالم سواء أكان مسلماً أم غير مسلم يقبل أن يشاركه رجل آخر في زوجته فضلا عن 3 رجال. وإنما يفعل ذلك مدمنو المخدرات، والزناة والزانيات فقط، فأي مجتمع حداثوي يبشرون به، وأي تعاسة وخراب ودمار يبشرون به مجتمعاتهم.
وفي المقابل هناك من ترضى بأن تشاركها زوجة أخرى وأكثر، والخبرات التاريخية للبشرية تثبت طبيعة هذه الحياة الاجتماعية قبل الإسلام وبعده. فتعدد الزوجات لم يبتدعه الإسلام، وإنما ضبطه الشرع الحكيم، ففي الديانات السابقة عدّد الأنبياء، مثل إبراهيم وداود وسليمان ويعقوب عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام. واليهود والنصارى والمسلمون وأصحاب الديانات الأخرى يعرفون ذلك ويدركونه. فعن أي حداثة يتحدثون؟!
واليوم بات الغرب مدركاً لخطأ تلك المقولة، وبدأ يقحم الدين في كل شيء، بما في ذلك السياسة. ولكن الكنيسة غير مؤهلة لملء الفراغ مجدداً بعد أن انحدرت هي الأخرى فيما كان سبباً من أسباب سقوطها الأول. ففضائح الاعتداءات الجنسية على الأطفال،(الكاثوليكية) واعترافها بالزواج المثلي، وظهور قساوسة من الشواذ جنسيا، (البروتستانتية) واحتدام الصراع على النفوذ داخلها (الأرثوذكسية) لم تَدَعْ مجالاً للكنيسة بطوائفها الثلاث الكبرى فرصة للعب دور مستقبلي في الغرب، والأمل أن يملأ الإسلام هذا الفراغ الكبير.