“الإسلام الحقيقي لم يوجد ولم يطبق لا في هذا الزمان ولا في صدر الإسلام، لأن حقيقة الإسلام هي محصّلة تواريخه”
لقد قُطِّع الإسلام في دوامة المجزرة العلمانية إلى إسلامات كثيرة، ولا بد هنا من السؤال: هل يطرح العلمانيون مفهوماً جديداً للإسلام يضاف إلى الإسلامات التي رأيناها؟ أم يرتضون مفهوماً من بين تلك المفاهيم؟ أم أن هناك خياراً آخر؟
إذا كان الإسلام بنظر أحد الباحثين فكرة مجردة(1)، وإذا كان الإسلام جاء وذهب بنظر باحث آخر(2)، ولا يمكن إعادته في بكارته النبوية الأولى عقيدة وتشريعاً وفقهاً(3). وكان في أساسه قاصراً على الأخلاق والقيم، ولم يكن فيه أي نظام سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي(4)، وكان رخواً مرناً جداً في التعامل مع الشعوب المفتوحة، فلم يطلب أكثر من إعلان الشهادة فقط، وليمارسوا عاداتهم ومعتقداتهم كما يريدون(5) فإن هذا يتيح لنا -أقصد للخطاب العلماني- أن نبحث عن إسلامٍ عصري مستنير مساير لروح العصر(6).
فالإسلام لا يكون صحيحاً إلا إذا طرح بالمفهوم البرغسوني وذلك بجعله ديناً منفتحاً(7)، والتخلص من الفهم الحرفي للدين(8)، ولن يتم ذلك إلا إذا تمت إعادة النظر في الإسلام كلية من منظور تاريخي بحيث يصبح من الضروري أن نوفق بين الإسلام والفكر اللاديني(9)، وبحيث يمكن أن يصبح الإلحاد إيماناً، والإيمان إلحاداً، “فالإلحاد هو التجديد، وهو المعنى الأصلي للإيمان”(10).
وهذا يقتضي التخلص من المفاهيم السائدة عن الإسلام بأنه دين الحق، أو الحقيقة المطلقة، أو الدين القويم وأنه النسخة الأخيرة من الدين المقبول عند الله عز وجل(11).
كمـا أنه لم يعـد يكفي لتعريف الإسلام أن نقول عنه: إنه “الدين الذي أتى به محمد” (12) -صلى الله عليه وسلم-، لأن الإسلام ليس إلا “أحد التجليات التاريخية للظاهرة الدينية”(13) و”حقيقة الإسلام وهويته ليست شيئاً جاهزاً يُكتسب بصورة نهائية، وإنما هي مُركب يجري تشكيله وإعادة إنتاجه باستمرار، وهي تتنوع أو تتغير بتغير الظروف والشروط والمعطيات”(14).
فلا يـوجـد إسـلام جـوهري حقيـقي نموذجي، وإنما الإسلام هو ما طُبِّق في التاريخ(15)، وهو ما يعني أنه “لا يوجد إسلام في ذاته، وإنما لكل واحد تصوره المختلف للإسلام، وطريقته الخاصة في أدائه وممارسته.(16)
لا يوجد إسلام أصولي صحيح يمكن استعادته وتطبيقه التطبيق الأفضل(17)، ولأن التطبيق خيانة فإنه لا وجود لإسلام حقيقي أصولي يمكن العودة إليه، فالإسلام الحقيقي لم يوجد ولم يطبق لا في هذا الزمان ولا في صدر الإسلام، لأن حقيقة الإسلام هي محصلة تواريخه(18).
ولأننا لا يمكننـا اليوم أن نحدد ما هو الإسلام الصحيح ولا يوجد أي معيار لتحديد ذلك(19) فإن مفهوم الإسلام يجب أن يبقى منفتحاً مستعصياً على الإغلاق لكي يقبل الخضوع للتغير المستمر الذي يفرضه التاريخ، فالإسلام لا يكتمل أبداً، بل ينبغي إعادة تحديده وتعريفه داخل كل سياق اجتماعي ثقافي، وفي كل مرحلة تاريخية معينة(20).
وهذا هو معنى القراءة العلمانية للإسلام “أن لا نسلم بالمسلم به”(21)، وأن نطرح مفهوماً موضوعياً للإسلام يتجاوز الأطروحات الأيديولوجية (22)، ويخرج من الدائرة العقائدية المعيارية للإسلام الأرثوذكسي(23).
ولكن هـذا لا يعني بنظـر أركـون -متفضلاً!!- أن نحـذف كل إشارة إلى الإسلام(24)، وإن كان حسن حنفي يبخل علينا بهذا الفضل !!فيرفض حتى كلمة إسلام ويستبـدلها بكلمة التحـرر، لأن هذا اللفظ الأخـير “يعبر عن مضمون الإسلام أكثر من اللفظ القديم”(25).
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) تجديد الفكر العربي لزكي نجيب محمود ص:68 يعني لا يمكن تحديد نموذج تطبيقي له في الواقع فيكون معياراً يرجع إليه.
(2) صوت الناس، محنة ثقافة؛ الصادق النيهوم ص:155.
(3) الإسلام والعصر، طيب تيزيني ص:129-130.
(4) الثقافة أولاً وأخيراً، طارق حجي ص:20.
(5) سلطة النص، عبد الهادي عبد الرحمن ص:41-42.
(6) حول الدعوة إلى تطبيق الشريعة، حسين أحمد أمين ص:5، والخطاب والتأويل لنصر حامد أبو زيد ص:195-197.
(7) لبنات، عبد المجيد الشرفي ص:50 وانظر له أيضاً: الإسلام بين الرسالة والتاريخ ص:47. يفرق برجسون بين الدين المغلق والدين المفتوح والأخلاق المغلقة والأخلاق المفتوحة انظر: مراد وهبة ،المذهب في فلسفة برجسون، ص:92-140-142.
(8) والمقصود بالفهم الحرفي هو الفهم المستقر بين الأمة للإسلام والذي يدين به مليار مسلم ودانت به الأمة منذ أربعة عشر قرناً. والفهم الحرفي والحرفيين كلمة تتكرر كثيراً لدى العلمانيين.
(9) قال د. أركون ذلك في حوار مع إحدى المجلات الفرنسية انظر: القراءة الجديدة للقرآن الكريم في ضوء ضوابط التفسير لعبد الرزاق هوماس ص:171.
(10)التراث والتجديد لحسن حنفي ص:67.
(11) القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني لأركون ص:69. إن مثل هذه المفاهيم بنظر أركون جاءت في سياق تاريخي لتحقيق سيادة المؤمنين على غيرهم من الفئات الأخرى كاليهود والنصارى، لتأسيس مشروعية سلطوية للنبي والمؤمنين متميزة عن الفئات الأخرى، فهي إذن مفاهيم تاريخية مهمتها تحقيق مصالح مباشرة لفاعلين اجتماعيين -أي للمؤمنين-. انظر: القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني لأركون ص: 70-71.
(12) الفكر الإسلامي قراءة علمية لأركون ص:114.
(13) قضايا في نقد العقل الديني لأركون ص: 39.
(14) نقد النص لعلي حرب ص:155.
(15) المرجع السابق ص:153.
(16) المرجع السابق ص:158.
(17) الممنوع الممتنع في نقد الذات المفكرة؛ علي حرب ص:28.
(18) المرجع السابق ص:28.
(19) تاريخية الفكر العربي الإسلامي لأركون ص:146 وانظر القراءة الجديدة لعبد الرزاق هوماس ص:84.
(20) إشكالية القراءة في الفكر العربي الإسلامي المعاصر، نتاج محمد أركون نموذجاً لخالد السعيداني ص:56.
(21) نقد الحقيقة لعلي حرب ص:58.
(22) مفهوم النص لنصر حامد أبو زيد ص:20.
(23) تاريخية الفكر لأركون ص:217.
(24) المرجع السابق ص:217.
(25) التراث والتجديد د. حسن حنفي ص:99.