مؤتمرات الاستعمار وتقسيم الأمة:
تفرز مؤتمرات الدول الاستعمارية، دائما وأبدا خطط وبرامج عمل، بأهداف محددة، وتواريخ مضبوطة، ومراقبة ومتابعة، هذا ما يثبته التاريخ، والواقع المعاش. على الأقل خلال القرن الأخير من تاريخ الانحطاط والتقسيم الذي نعيشه.
بالمقابل، تجتمع نخب بني جلدتنا، طوال هذه الفترة الحرجة، لعقد موتمرات ولقاءات، والخروج منها في كل مرة بلا طائل، والأغرب أن تكون تلك اللقاءات والمؤتمرات غالبا لإدانة بعضنا البعض، والأدهى منه والأمر، أن يجتمع المجتمعون للخوض في معارك كلامية، ومواضيع نظرية، لا عمل يعقبها. لأن العقول التي يجب أن تدبر المرحلة وملفات الأمة، مشغولة بوضع تعاريف ضيقة وإقصائية على مقاس هذا النظام السياسي أو ذاك
خلال ربع قرن فقط، عرفت المنطقة حروبا طاحنة، راح ضحيتها أزيد من أربعة ملايين قتيل، هم وقود الحرب على الإرهاب، التي يشنها الغرب وحلفاؤه على المسلمين. بدءا بحصار العراق، وقتل أطفاله جوعا، على يد أمريكا وحلفائها الغربيين، وصولا إلا سحق أطفاله تحت دبابات الميلشيات الإيرانية. مرورا ببورما وسوريا وليبيا، وهلم جرا.
للأسف المؤامرة لم تشارك فيها أمريكا وحلفائها ولا حتى إيران وملشياتها، فقط. فغزو أفغانستان والغزو الثاني للعراق، تم بمشاركة خليجية وتركية بشكل أو بآخر.
أنظمة عديدة عربية وإسلامية، كانت جزءا من المؤامرة، أو لنقل جزءا من الخطة، التي وضعتها مؤتمرات ولقاءات، ليست كمؤتمراتنا ولقاءاتنا، مؤتمرات تقرر فتنفذ، وتقول فتفعل.
أول هذه المؤتمرات مؤتمر بازل بسويسرا:
وهو مؤتمر لم يشتغل أصحابه، بوضع تعريف لليهود، من هم؟ وأي الطوائف فيهم أقرب إلى الحق؟
أبدا، لقد كانوا منشغلين بالعمل، والنهوض بأمتهم، وإيجاد موطئ قدم لهم، وحفظ مصالحهم.
كان الهدف هو تحقيق الأولويات، أو لنقل تحقيق الوجود، ثم بعد ذلك تأتي النقاشات الأخرى في سعة من الأمر.
افتتح هذا المؤتمر سنة 1897م ويمكن أن نلخص قراراته فيما يلي:
وضع هذا المؤتمر أسس وبرنامج الحركة الصهيونية، التي تتمثل في استعادة (مملكة إسرائيل) لحدودها التاريخية، وإعادة تكوين الشعب اليهودي وطنه القديم.
أوصى المؤتمر بالتدابير التالية لتحقيق الأهداف الصهيونية:
تنمية حركة الاستعمار اليهودي في فلسطين بطريقة عملية منظمة.
إيقاظ الوعي القومي بين يهود العالم.
القيام بالسعي لدى الحكومات المختلفة لتأييد كفاح اليهود لتحقيق أهداف الحركة الصهيونية.
تنظيم العناصر اليهودية وتوثيق الروابط بينها بإنشاء المؤسسات المحلية والدولية وفقا للقوانين المرعية في الدول المختلفة.
وفي هذا المؤتمر وضع شعار العلم اليهودي والنشيد القومي وتأسست الهيئات الصهيونية العالمية.
يقول هيرتزل: لو طلب إلي تلخيص أعمال المؤتمر فأني أقول بل أنادي على مسمع الجميع إنني قد أسست الدولة اليهودية.
ثاني أخطر مؤتمر هو مؤتمر كامبل:
مؤتمر كامبل بنرمان، هو مؤتمر انعقد في لندن عام 1905 واستمرت جلساته حتى 1907، بدعوة سرية من حزب المحافظين البريطانيين.
يهدف المؤتمر إلى إيجاد آلية تحافظ على تفوق ومكاسب الدول الاستعمارية (بريطانيا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، إسبانيا، إيطاليا) إلى أطول أمد ممكن.
وفي نهاية المؤتمر خرج المجتمعون بوثيقة سرية سموها “وثيقة كامبل” نسبة إلى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك هنري كامبل بانرمان، ومن نتائج وتوصيات المؤتمر:
إبقاء شعوب المنطقة العربية مفككة جاهلة متأخرة، وعلى هذا الأساس قاموا بتقسيم دول العالم بالنسبة إليهم إلى ثلاث فئات:
الفئة الأولى: دول الحضارة الغربية المسيحية (دول أوروبا وأمريكا الشمالية وأستراليا) والواجب تجاه هذه الدول هو دعم هذه الدول ماديا وتقنيا لتصل إلى مستوى تلك الدول.
الفئة الثانية: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ولكن لا يوجد تصادم حضاري معها ولا تشكل تهديدا عليها (كدول أمريكا الجنوبية واليابان وكوريا وغيرها) والواجب تجاه هذه الدول هو احتواؤها وإمكانية دعمها بالقدر الذي لا يشكل تهديدا عليها وعلى تفوقها.
الفئة الثالثة: دول لا تقع ضمن الحضارة الغربية المسيحية ويوجد تصادم حضاري معها وتشكل تهديدا لتفوقها (وهي بالتحديد الدول العربية بشكل خاص والإسلامية بشكل عام) والواجب تجاه تلك الدول هو حرمانها من الدعم ومن اكتساب العلوم والمعارف التقنية وعدم دعمها في هذا المجال ومحاربة أي اتجاه من هذه الدول لامتلاك العلوم التقنية، ومحاربة أي توجه وحدوي فيه.
اتفاقية سايكس بيكو:
اتفاقية سايكس بيكو عام 1916، كانت اتفاقا وتفاهمًا سريًا بين فرنسا والمملكة المتحدة بمصادقة من الإمبراطورية الروسية، على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا، لتحديد مناطق النفوذ في غرب آسيا بعد تهاوي الدولة العثمانية، المسيطرة على هذه المنطقة، في الحرب العالمية الأولى.
وهكذا أسفر الاتفاق عن تقسيم المنطقة، إلى مناطق تم تمييزها بحروف وأرقام وألوان كما تبين بنود ومواد الاتفاقية:
المادة الأولى: إن فرنسا وبريطانيا العظمى مستعدتان أن تعترفا وتحميا دولة عربية برئاسة رئيس عربي في المنطقتين “آ” (داخلية سوريا) و”ب” (داخلية العراق) المبينة في الخريطة الملحقة بهذا الاتفاق. يكون لفرنسا في منطقة (آ) ولإنگلترة في منطقة (ب) حق الأولوية في المشروعات والقروض المحلية، وتنفرد فرنسا في منطقة (آ) وإنكلترا في منطقة (ب) بتقديم المستشارين والموظفين الأجانب بناء على طلب الحكومة العربية أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثانية: يباح لفرنسا في المنطقة الزرقاء (سوريا الساحلية) ولإنگلترة في المنطقة الحمراء (منطقة البصرة) إنشاء ما ترغبان به من شكل الحكم مباشرة أو بالواسطة أو من المراقبة، بعد الاتفاق مع الحكومة أو حلف الحكومات العربية.
المادة الثالثة: تنشأ إدارة دولية في المنطقة السمراء (فلسطين)، يعين شكلها بعد استشارة روسيا وبالاتفاق مع بقية الحلفاء وممثلي شريف مكة.
وهكذا كل البنود والمواد، إلى المادة الثانية عشر، تقسيم وتجزئ للمنطقة، لم يمض عليه وقت طويل حتى أصبح واقعا مريرا، تعيشه شعوب المنطقة.
موتمرا جروزني والكويت:
طوال هذه المدة لم ينجح العرب والمسلمون، في بلورة أهداف مشتركة، في عقد مؤتمرات تترجم تقاريرها وتوصياتها، لأعمال تفيد المنطقة وشعوبها، والمطلع على القمم والمؤتمرات المنعقدة، طيلة الفترة المسماة ما بعد الاستقلال، سيصاب بالصدمة بل بالغثيان، لعددها ونتائجها.
مؤتمرات “المؤتمر الإسلامي”، و”جامعة الدول العربية”، و”دول التعاون الخليجي”، و”المغرب العربي”.. وهلم جرا، مؤتمرات بالآلاف، لا تسمن شعوب المنطقة، ولا تغنيها من جوع، ولا تأمنها من خوف، ولا تحميها من بطش. في أحسن أحوالها تبقى حبرا على ورق، أو تعمق جراح الأمة.
اجتمع قبل حوالي شهر بعض دعاة ومشايخ صوفية الأنظمة السياسية، من أدعياء المذهب الأشعري، برعاية روسية، لتشتيت الأمة وإشغالها بمعارك كلامية طاحنة، وصرف أنظارها عن الإجرام الروسي أولا، والأنظمة الراعية لأولئك المشايخ ثانيا.
بعده بقليل اجتمع بعض دعاة ومشايخ السلفية المدخلية، من أدعياء المذهب الحنبلي. لإمضاء شيك على بياض، لخلود حكام تلك الأنظمة على كراسيهم، وإطلاق يد ظلمهم وبطشهم في شعوبهم، ومصادرة حقوق تلك الشعوب في المطالبة بحقوقها.
المؤتمران معا جاءا في ظرفية حساسة يمر منها المسلمون، قتلا وتجويعا وتقسيما وتدميرا، ولم يتطرق أي منهما لكل هذه المآسي، بل سعى كل منهما لسحب البساط من العلماء العاملين وإسقاطهم، والجماعات الممانعة وتشويهها، إمعانا في إبقاء حال الأمة على ماهي عليه.