في زمن تطاولَ فيه الأقزام على الأعلام؛ وتصدر فئة من الجهلة والمستغربين للنيل من علماء المغرب ودعاته المشهورين؛ بات من الضروري بل من الواجب الدفاع على من لهم فضل علينا جميعا؛ وإبراز محاسنهم وتسليط الضوء على مؤلفاتهم وكتبهم وجهادهم ودعوتهم.
ومن ضمن هؤلاء العلماء البارزين الشيخ عبد الرحمن النتيفي رحمه الله؛ هذا العلم الذي كان يجله الملك الراحل محمد الخامس -رحمه الله- غاية الإجلال، وأولاه في عهده الخطابة والتدريس بـ(المسجد المحمدي بالدار البيضاء) فأتم به تفسير القرآن الكريم كاملا في عشرين سنة.
وسعيا من جريدة “الأحداث” -كعادتها- إلى تشويه هؤلاء الرموز وتغيير أسس الفكر والعقلية الإسلامية المغربية، فقد نشرت تحقيقا سلكت فيه الأسلوب نفسه الذي اعتدناه منها أثناء تعرضها لقضايا شرعية وفكرية من قبيل الحجاب والنقاب والإرث والتطرف والإرهاب والوهابية.. وغير ذلك؛ نالت فيه من الشيخ النتيفي ومن الأستاذ حميد العقرة الذي اعتنى برسالته وأخرجها من رفوف المخطوطات إلى عالم المطبوعات.
وتبصيرا للرأي العام؛ نورد في هذه الصفحة ترجمة موجزة للشيخ عبد الرحمن النتيفي بقلم الأستاذ حميد العقرة صحاب كتاب “حكم السنة والكتاب في الزوايا والقباب”.
هو الحاج عبد الرحمن بن محمد بن إبراهيم النتيفي الجعفري الشريف الزينبي.
قال ولده العلامة الحسن في كتابه: (الرحلة إلى الديار المقدسة ص:38): أما والدي فهو من (فم الجمعة) سوق قبيلة هنتيفة، من فخذ المقداديين، وهم شرفاء زينبيون، يتصل نسبهم بعبد الله بن جعفر، من زوجته زينب بنت فاطمة -رضي الله عنها-، وقد تكلمنا على تصحيح نسبنا للجعفريين في كتابنا المسمى: (جواهر الحسان وقلائد العقيان، في ترجمة الإمام العلامة الوالد: أبي زيد عبد الرحمن).
ولد الشيخ -رحمه الله- سنة 1303 للهجرة.
أخذ عن أعلام المغرب في زمنه، منهم:
-العلامة أحمد بن الخياط الفاسي.
-العلامة محمد بن جعفر الكتاني.
-العلامة الفاطمي الشرادي.
-العلامة محمد بن التهامي كنون.
وتخرج على يد الشيخ تلاميذ كثر من أبرزهم:
-ابنه الأديب الفقيه الحسن بن عبد الرحمن.
-ابنه السيخ أحمد الذي توفي شابا.
-المؤرخ محمد العبدي الكانوني الآسفي،
-أخ الشيخ الفقيه الجيلالي بن محمد النتيفي، كان مناهضا للاحتلال الفرنسي ومقاوما له.
أثنى على العلامة النتيفي رحمه الله جِلة من علماء عصره، منهم:
ابنه الحسن، والحافظ بوشعيب الدكالي، والمؤرخ ابن زيدان العلوي، ومحمد بن العربي العلوي، والعلامة الأديب المختار السوسي، وغيرهم كثير.
وقد عاش الشيخ (84 سنة)، منها أزيد من 50 سنة في التدريس والتعليم والتأليف، فنشر السنة بالأطلس المتوسطـ وأسس مدرسة “السنة” بالدار البيضاء التي تخرج منها المئات من الطلبة، وبقي على هذا الحال إلى أن توفي -رحمه لله- سنة 1385 للهجرة، بعد مرض عضال دام سنوات، فترك -رحمه الله- خزانة من العلم والأدب والثقافة، تزيد عن سبعين مؤلفا، تضمنت الرد على البدعة وأهلها، والانتصار للسنة والملة.
مواقفه الإصلاحية ومنهاجه الذي سار عليه حتى لقي رب العالمين
كان العلامة النتيفي كتاني الطريقة، فبصره الله بالسنة والتوحيد، فأناب سريعا إلى الحق الذي يرضاه الله -تبارك وتعالى- دينا ومنهجا، وهو كتاب الله، وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح.
فقام بإصلاح ديني تمثل في تقويم بعض الآراء العقدية، والقضايا المنهجية والمسائل الفقهية. وإن كان هذا الأمر لم يَرُق كثيرا من علماء عصره، لكن كما قال رحمه الله في (أصفى الموارد): بحيث من ناقش في ذلك أو جاء بحجة إلى رده كان عندهم من المارقين.
وهذا المنهج الذي انتهجه الشيخ ليس مخترعا؛ بل هو نهج إخوانه، بدء من الإمام مالك وردوده على الجهمية والرافضة والقدرية والمرجئة والخوارج وغيرهم من الفرق، وقد ذكر أقواله وردوده كل من القاضي عياض وقبله ابن عبد البر في “الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء” وسلك نهجه جهابذة المذهب المالكي، سواء من متقدمي المذهب أو من متأخريهم، وإن كانت هذه الردود قد برزت بشكل كبير عند المتقدمين.
فهذا الإمام محمد بن سحنون (ت 256هـ) صاحب المؤلفات الغزيرة، منها: “الحجة على القدرية” و “الرد على أهل البدع” و”الإيمان والرد على أهل الشرك” ، وبعده الإمام ابن أبي زيد القيرواني صاحب الرسالة، فقد ألف ردودا على أهل البدع منها: “الرد على القدرية” و”مناقضة رسالة البغدادي المعتزلي” و”الرد على الصوفية”، وهذا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم (ت 282هـ) ألف “الرد على بشر المريسي المعتزلي” والإمام أبو عمر الطلنمكي (ت 429هـ) الذي قال عنه ابن الحذاء: “سيفا على أهل البدع”، وهذا عبد الملك بن الماجشون (ت 212هـ) ألف “الرد على من قال بخلق القرآن” وجاء بعد هؤلاء الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت 790 هـ) فأنكر بدعا عدة في كتابه الماتع “الاعتصام” واللائحة طويلة.
والعلامة النتيفي سلك نهج أسلافه، وهو عدم السكوت عن البدع والمنكرات التي تفشت في زمنه، والتي شوهت جمال الإسلام ورونقه، كالغلو في جناب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، والاعتقاد في الأموات، وادعاء رؤية النبي صلى الله عليه وسلم يقظة لا مناما، وادعاء بعضهم الاطلاع على اللوح المحفوظ، فناقش السيوطي، الذي زعم أن النبي صلى الله عليه وسلم يُرى بعد وفاته يقظة، فدحض قوله بالكتاب والسنة، وقول السلف في كتابه: (الاستفاضة في أن النبي صلى الله عليه وسلم لا يرى بعد وفاته يقظة).
وناقش شراح المرشد المعين في مسائل العقيدة، في كتابه: “الإرشاد والتبيين في البحث مع شراح المرشد المعين” لكن بأدب جم، وأسلوب علمي رصين.
أما جهوده ومواقفه في بيان الأحكام الشرعية، والنوازل الفقهية التي ظهرت في زمنه، وتُكلِّم فيها في وقته، فاهتم بها -رحمه الله- أتم اهتمام، واعتنى بها على الوجه الذي يليق بها مع كامل الإلمام، بما أتاه الله من علم، وحباه به من حكمة، فألف كتاب: (الحُكْم المشهور في طهارة العطور، وطهورية الماء المخلوط بالملح -المسمى بالكافور-)، وكتاب: (الإرشاد والسداد في رخصة الإفطار في رمضان للدّارس والحصّاد) وألف كتاب: (المستغنم في رفع الجناح عن المستخدم)، وموضوعه جواز الجمع بين الظهر والعصر للمستخدم الذي لا يتمكن من إقامة الصلاة -أي العصر- بسبب ظروف عمله إبان الاحتلال الفرنسي، وألف كتاب: (إظهار الحق والانتصار في البحث مع صاحب توجيه الأنظار لتوحيد المسلمين في الصوم والإفطار) رد فيه على من أوجب توحيد الصوم والإفطار، وهي مسألةُ خلاف بين الأسلاف.
دفاعه عن القضية الوطنية ملكا وشعبا وأرضا
كان الشيخ النتيفي -رحمه الله- أحد رموز المغرب المقاومين ضد الاحتلال الفرنسي، فنجد حضوره في مواقع كثيرة، وساحات الوغى المثيرة، منها:
موقعة تدّارت التي احتل على إثرها المستعمر الدار البيضاء، وهَزَم على إثرها قبائل الشاوية وما جاورها.
وموقعة أرغوس الشهيرة، التي ناضل فيها مع تلاميذه
وموقعة أفود أحمري الذي اخترق الرصاص فيها ثيابه، فنجاه الله فيها، وغير ذلك من المعارك.
وبسبب هذه الصفات النبيلة كان الملك محمد الخامس -رحمه الله- يجله غاية الإجلال، ولا أدل على ذلك من توليته الخطابة والتدريس بـ(المسجد المحمدي بالدارالبيضاء) فأتم به تفسير القرآن الكريم كاملا في عشرين سنة، وبقي على هذا إلى أن توفي، فناب عنه ابنه العلامة الحسن إلى أن توفي سنة 1398هـ.
وقد وقعت للشيخ قصة عجيبة أيام الملك محمد الخامس رحمه الله، عندما بلغ تفسير الاستواء، فسرها الإمام مالك، في قولته المشهورة، المأثورة: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والإيمان به واجب والسؤال عنه بدعة)، فشغب عليه بعض الحسدة من علماء عصره، زاعما أن القائل به مجسم مشبه، حتى عزل عن التدريس والخطابة، فتدخل العقلاء بجميل القول والمخاطبة للملك، الذي أمر بعقد المناظرة بين النتيفي ومخالفه، وكلف الفقيه بن خضرا السلاوي بالحكم بينهما، فأفحم النتيفي المخالف، فانبهر القاضي بن خضرا لحجج النتيفي وقال: هذا هو الحق، فصدر الأمر الملكي بتوقيف الخصم عن التدريس، وإرجاع النتيفي إلى منصبه.
دفاعه عن القضية الفلسطينية
لقد خدم الشيخ النتيفي -رحمه الله- كباقي العلماء القضية الفلسطينية، هذه الشوكة التي في رجل الأسد، والمأساة التي أرّقت المسلمين في كل بلد، فكافح مع أهل فلسطين بقلمه، ورد على من أثبت الأرض لليهود لا للمسلمين، في مصنفه: (النصر والتمكين في وجوب الدفاع عن فلسطين).