لا تـقـطـــع أذنــــك! هبة نجاعي

لقد شهدت الأحداث التاريخية والكتب السماوية، وعدد من كتب الروايات الشاهدة على الزمن الغابر أن في الناس أصلا متأصلا وطبيعة نفسية عجيبة، لكنها منطقية؛ فقد كانوا على اختلافهم متفقين عليه دون أن يشعروا، وظل هذا الأصل متوارثًا للأجيال من بعدهم وما يزال حتى الآن! يشمله مصطلح اجتماعي يقول: (اتبع الأغلبية!)
كان العرب قديمًا يتوزعون على قبائل عديدة، كل قبيلة منها لها مبادؤها وقواعدها وأعرافها، وكان من الشائع عند الصغير قبل الكبير أن عُرف الجماعة أَولى من عُرف الفَرد، بل إن الفرد نفسه مُلزَم باتباع أعراف قبيلته دون الخروج عنها، ويُعد (عيبًا) أن تكون له كلمة فوق كلمةٍ أخرى أجمَعَ عليها أهل قبيلته. بعد قرون عديدة، احتفظ الناس بمبدئهم رغم توحد القبائل، وصارت طاعة الجَمع قانونًا إلزاميًا يُسَخَّفُ مَن يعارضه، ويُسَفّه صاحب الرأي الأوحَد، لأنه من مُسلّمات الجنون عندهم أن تسير على طريق يُعاكس ما يسيرُ عليه إجماع الملأ!
لربما تساءلتَ الآن: وما العيب في اتباع الجماعة؟
جواب سؤالك هذا مقسم إلى قسمَين؛ أولهما: لا عيب في ذلك! ولن أزعِجَك بتفصيل ممل يجعلك تقلِب الصفحة وتبحث عن شيء أكثر اختصارًا.. أجل، لا عَيب في اتباع الجماعة ما دامت أقوالها وأفعالها صائبة، وإجماع كلمَتِها مبنيّ على آراء لم تصدر اعتباطًا، بل كانت صادرة من عقول واعية تدرك مصلحة جماعتها، وتَعي تأثير رأيها على مُتبعيها. وذلك ما يحققه مبدأ الشورى في الإسلام {وأمرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ}، وهو الأمر الإيجابي في اتباع الجماعة بما يسمّى [نصرة الحق مع الأغلبية]، مع الوعي بأحقيته ووضوح ذلك بالبرهان أو بدونه، على أن هذا النوع من الاتباع يكون يسيرًا بسبب كثرة المؤيدين للصواب وقلة الفئة المعارضة له.
والقسم الثاني: الاتباع الأحمق! وهو موافقة رأي الآخرين أو توجهاتهم الفكرية لمجرد أنهم (كثرة)، أو (أغلبية). أعطي لذلك مثالًا: لَو كنتَ من متابعي قضية الإلحاد المنتشرة جذوره في الأوطان العربية، فإنك حتمًا قد قرأت أو سمعت ملحدًا يقول: “التطور حقيقة ثابتة! إنهم يدرسونه في كل جامعات العالم!” وما ذلك إلّا مغالطة واضحة للعيان، بِغضّ النظر عن أنهم حقًا لا يدرّسونه في كل جامعات العالم!
ذلك الملحد (الكومبارس) قد تأثر فعليًا بما أملاه عليه الإعلام، ورأى أن خروجه عن جماعة المُنادين بأحقية التطور سيجعل منه متخلفًا رغم أنه خالف فطرته وعقلَه! .. وكأني بك الآن تسخر من هذا المسكين.. لكن صدّقني، هو ليس غبيًا، فما حصل له هو نفس ما حصل لضحايا تجربة آش!
في منتصف القرن الماضي، اجرى سولومون آش Solomon Asch مجموعة تجارب سمّيت بـ”مجموعة تجارب آش للامتثال”The Asch conformity experiments من أجل دراسة تأثير رأي الأغلبية Majority على رأي الفرد حتى لو اضطر أن يخالف ما هو متيقن منه بعينَيه لكيلا يظهر بصورة (الضعيف المتخلف). فكان مجموع تجارب آش 50 تجربة على طلبة مختلفين، يوضَع كل منهم وسط أشخاص آخرين يوهمونه أنهم مثله واقعون تحت الاختبار، بينما هم في الحقيقة (ممثلون) متعاونون مع “آش”.
يُعرض عليهم جميعًا صور لمجموعة من الخطوط مختلفة الأطوال، ويتم سؤالهم بعض الأسئلة عنها.. في بداية التجربة، يجيب الجميع إجابات صحيحة بما فيهم الطالب (الضحية)، ثم يتم تغيير نمط الصور قليلاً، وتبدأ مجموعة (الممثلين) في الإجابة إجابات خاطئة تخالف ما يراه الطالب الحقيقي بأم عينيه! والسؤال: هل سيخالفهم؟ أَم سيجيب بنفس إجاباتهم -التي هو على يقين بأنها خطأ-؟
كانت نتيجة التجربة أن أغلب الطلاب تأثروا بالأكثرية، وسايَرُوهم مع الإجابات الخطأ، وذلك بدوافع الخجل من مخالفة الكثرة، أو بدافع عدم الشذوذ والتميز بالخطأ بينهم، أو لقلة الثقة بالنفس فرأي الأغلبية هو الصواب مهما ظهر له غير ذلك. والدليل على ذلك أنهم لما أعطَوا أحد الطلاب الحقيقيين ورقة وقلمًا ليدون عليها إجاباته دون أن يراها الآخرون، كانت كل إجاباته صحيحة! (انظر تجارب آش للامتثال للأغلبية أو الأكثرية/ الباحثون المسلمون).
تجارب آش قد وضحَت بشكل كبير تلك الغريزة الإنسانية التي تجعلنا نشعر بالخوف من التفرد بالرأي حتى لو كان صحيحًا! لقد استغل ذلكَ أعداؤُنا وأمسكوا بزمام السلاح الفتّاك الذي نهش مبادئنا قبل شريعتنا، ألا وهو الدعاية وأسلوب التكرار؛ فعندما تسمع معلومة للمرة الأولى قد لا تعيرها اهتمامًا.. ماذا لو تكررت للمرة الثانية..؟ العاشرة..؟ السبعين..؟ ما هذا؟! هل العالم يسير إلى الأمام وأنا أسير إلى الخلف؟ كلهم يقولون نفس المعلومة! لابد أنهم يقولون الحقيقة! كيف يُعقَل أن يخطئ كل هؤلاء وأكون وحدي على حق؟ بالتأكيد أنا المخطئ!!
دعني أنتقل بك -إسمح لي- إلى قصة تجسّد وضع المُتبعين من القسم الثاني الذي سبق الإشارة إليه..
يُحكى أن شابًا دخل أحد البلدان يومًا، وكانت لدى أهل البلد عادةٌ متوارثة، وهي قطعُ إحدى أذنيهم وترك الأخرى.. فلمّا وصل، تعجب من منظرهم الغريب بأذُن واحدة، ولم يكن يعلم القصة وراء قطع آذانهم..
وهي أن أحد الملوك السابقين كان ينتظر ولادة ولي عهده بفارغ الصبر، فلما أنجبَت الملكة، فوجئ أن المولود ذو أذن واحدة، وخشي أن يصبح لدى الابن عقدة نفسية تَحُول بينه وبين كرسي الحُكم. وبعد التفكير والاستشارة، كان قراره أن يتم قطع أذن كل مولود جديد يولَد في البلد، وبمرور عشرات السنوات، صار كل أهل البلد بأذن واحدة.. فلما دخل عليهم الشاب بأذنين اثنتين صاروا يضحكون من شكله وينعتونه –سُخريةً- “ذو الأذنيـن” .. ولعل صاحبنا هذا لم يكُن صبورًا، فوقع في فخّ تأثير الأغلبية، وسرعان ما ضاق بهم ذَرعًا وقرر قطع أذنه..!
لا تقطًع أُذُنَك! فقط لأن كل الناس قَد أجمعوا على رأي.. حتى يتبين لك صوابه!
لا تقطًع أُذُنَك! مادُمتَ على الحق، وما دامت آذان الآخرين مقطوعة عن سماعِه!
{وقَالُوا لَو كُنَّا نَسْمَعُ أَو نَعْقِلُ مَا كُنّا فِي أصْحَابِ السّعِير}
لا تقطًع أُذُنَك! قد تكون الأمل الوحيد لـ”صاحب أذنين” آخر، فلا يقطع أذنه تجنبًا للحَرَج! حتى لو كان الأمل ضعيفًا، إلا أنه خيرٌ من انعدامه.
أنتَ يا مَن تقرأ الآن، كُن على ثقة أن هذا الزمن من أكبر الدلائل على قلة أتباع الحقيقة المتحرّين عنها في كل المجالات الحياتية، وخاصّة العقائدية منها، لِما لها من تأثير على النفوس والألباب.. فاحرص دائمًا على الأخذ بِتَلَابِيب الشريعة الصائبة سواء كانت مع الأكثرية، أو الأقلية.. ما دمت في كل الأحوال.. لن تقطَع أذُنَك!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *