لا شك أن الشريعة الإسلامية جاءت بمقاصد عظيمة تحفظ مقومات المرء الإنسانية وتدفع مفاسد تفلت شهوانيته من عقال السوية، وحينما يسجل التاريخ أي نوع من الارتجاج والتطفيف في هذه المقاصد، فإن الشرع يكفل للمخاطب به حق الاحتجاج المنضبط والمطالبة العادلة بإرجاع الحق لذويه، مطالبة كفيلة باستئصال شأفة الزيغ وكنس مخلفات الشطط، فلا ضير إذن أن يصدع من في جيده عقد بيعة الولاء حاملا مطالبه حملا خفيفا لا تنوء به المصالح العليا لدولة الإسلام؛ نوءا يفتح ثغرة في ثخوم حصوننا المتداعية ليتسلل إليها تحت جنح الظلام المتربصون القدامى رواد المدرسة الاستعمارية.
فلا ضير إذن أن يفصح المواطن عن مطالبه ويبث شكواه الدنيوية التي أساسها الإطعام من الجوع الذي يحفظ الكرامة، والأمن من الخوف الذي يوثق حبل الصلة بين الحاكم والمحكوم، ولا ضير أن نرحب بالمناداة إلى العدالة الاجتماعية التي يتحقق في محيط وجودها قسمة أعباء الحق والواجب بالسوية بين القلب القائد والتابع الرائد، تماشيا مع التصوير البليغ الذي نبّه عليه سيد الخلق، ومثل له بالجسد الواحد الذي متى أصيب من عضو تداعت له المجموعة بالسهد والجهد الذي يدفع الصائل الدخيل..
فأين هذا الثرى من تلك الثريا؟
وأين ذلك التعاطي المحمود مع هذا الابتسار المنبوذ؟
فقد يكون حقنا المنشود بين أيدينا قريب النوال، لكن الأغراض المستحكمة لأصحاب المصالح المدخونة من قومة خرافية، وماركسية لينينية، وعلمانية لا دينية، قد حوّلوا هذا القرب إلى بعد وشط، وحوّلوا يسر نواله إلى عسر وفوضى.
وحتى لا ننسرب مع الكناية والإجمال، فيضيع الرمي، ويمرق سهم التصويب بعيدا عن نحر قضايانا كمغاربة مسلمين، فإننا لن نتكلم عن سقوط المعمرين من رموز العلمانية وتهافتهم تحت مكاسب احتجاج الفئات المحرومة، التي عاشت مطحونة بين فكي رحى الاستبداد الاشتراكي والاستعباد الإقطاعي.
لن نتكلم عن مبارك وابن علي والقذافي كحالات أعيان؛ بل يعنينا ونحن نستقرئ احتجاج الشارع المغربي أن نتكلم عنهم كمرجعية رمزية لتداعي المنظومة العلمانية، والتي كان لها كإيديولوجية أضيفت لها توابل محلية من أخلاط عقائدية خرافية لأصحاب القومة؛ الأثر البليغ في الفشل الذريع الذي آلت إليه المسيرات المطلبية في العديد من الحواضر المغربية، وما تمخض عن هذا الاحتجاج من مروق واعوجاج كان من صوره الإحراق والتخريب.
حيث تحوّل المسير إلى سيل عرم لا يبقي ولا يذر، وتحوّل جمع من المندسين إلى قطعان ذئاب مسعورة أطلقت على قطيع ليس له حارس، وتحولت الشعارات المسجوعة إلى كلام بذيء يصرف الضمائر عن غاياتها، ويغري النفوس بالتطاول الذي يجعل المطالب المشروعة في مهب العواطف الغضبية..
إننا وإن كنا لا ننكر أن هناك اختلالات ومظالم وحقوق مهدورة لفئات عريضة من النسيج الوطني، لا نستكبر عليها هي وحدها الخروج لإسماع صوت شكواها إلى ما وراء الأبواب الموصدة لمعشر المسؤولين، فإننا بالمقابل لا يمكن أن نلتزم الصمت والحياد في مواجهة ما سبّبه شرذمة من المخبولين، لو اِستمكنوا من الأمر لملأوا الآفاق بالمآثم والأيتام وزحموا أرجاء الوطن بالضحايا والمنكوبين.
كما لا يمكن السكوت على بعض المروجين للفتنة الذين يبغونها عوجا، والذين خرجوا ليقفوا في الصفوف الأولى حيث أشعة النيون مسلطة تنقل بالصوت والصورة تباكيهم على أحوال البلاد والعباد وهم من هم؟
هم الذين دافعوا عن المثليين وعبدة الشيطان، بل أخذوا على عاتقهم تدجين عين الشباب الذي سرق وضرب وخرب، وربوه من قبل على إيقاع المهرجانات الراعنة، التي يصرف على إقامتها كلما حل الصيف نزيف حاد من المال العام الذي يصب صبا في جيوب أهل المغنى، بدءا بذوات الأرداف من السافرات المائلات المميلات، ووقوفا عند أشباه الذكور ذوي السراويل الحاسرة عن الخصر أصحاب الارتجال الماسخ والشطح الفاضح، ناهيك عن الذين أخطأوا رجما بالغيب موعد قومة الخلافة على منهاج الخرافة، وهم اليوم بمناداتهم الناس للخروج يريدون جبر كسور تكهناتهم، والاستدراك على أمانيهم المنامية التي مرَّ عليها حين من الدهر، فحوّل تأويلها من أضغاث أحلام إلى سراب وكلام.
إننا عندما نرفض جراءة هذا الفصام النكد، لا نقبل أن يقرأ موقفنا هذا بعين السلبية، وأننا خارج سياق هموم فردنا وجماعتنا، أو أن إمساكنا راجع إلى الرضا على حصيلة المشروع العلماني القميء، أو أننا نرى في مطالب المساكين مجرد حراك في مسعى الفتنة والعصيان لا غير، بل إننا نرفض هذا النوع من التسخط لأننا ننتمي إلى منهج يؤثر في المحيط ولا يتأثر به، وسبيل متبع لا تابع، فـأنَّى للملتزم بهذه الخيرية وهذا الانتماء، أن يكون رقمَ كمٍّ يصب في بورصة القيم النفعية لبعض المضاربين بمصالح الإسلام والمسلمين، الذين ما أخرجهم إلا باعث ما كتب في صك أجندتهم بالحبر السري من أماني تمزيق أوصال هذه الأمة، وإدخال أخلاطها المتجانسة في مختبرات اغتيال مشروع التراص، عبر بث النعرات، وخلق الخصومات، والتمكين للشواذ والبغايا والساقطين من رقاب شرفاء هذه الأمة الباقية؛ بقاء ظهور ونصرة، والتسابق في تأدية واجب الاتباع الأعمى للقوى الاستعمارية والمسارعة في منكر تنفيذ مخططاتها الغادرة.
إننا؛ وإذ نرفض صور هذا الاحتجاج الحائف الذي يقدح في شكر منة الإطعام من الجوع والأمن من الخوف، والبيعة الشرعية للسلطان على الحق والمعروف، فإن هذا لا يعني أن منهج الانتماء الذي يدفعنا بإخلاص إلى أن نتدلى من الفوق الديني إلى الأسفل الدنيوي، لا لننسلخ عن فضائلنا ونشاطر المزايدين أساليب خصامهم، ونشاركهم تكسير الواجهات وإحراق اليابسات والعبث بأرواح الآمنين، بل مراد هذا التدلي هو تربية نشء التمكين على العقيدة الصحيحة وفق الاستقامة على أمر الجماعة، جيل يحمل لواء العودة إلى الدين عبر إزالة العوائق والعلائق التي كان من لازم جزائها الوفاق، انغماسنا في الذل والوهن المسلط بأمر الله الكوني، عود قادر بفضل الله على نزع لباس المذلة وثوب الدناءة، ونفخ روح القيادة وأنفاس الريادة التي عاشها أسلافنا على الحق والصدق.
فلا سبيل إلى تحقيق هذا الرجاء إلا عبر بوابة هذا الدين العظيم وسلك صراطه القويم، ولو تقول على هذا بعض المتعجلين فنبزوه بالاستبطاء والانغلاق، فإننا لا نملك إلا أن نسألهم عن حصيلة سنواتهم العجاف التي عاشوا أيامها ينشدون كراسي سياسية لا تسمن ولا تغني من جوع، أو أشهروا سيوف المروق فأغرقوا الأمة في الدماء البريئة التي فتحت حدودنا أمام وافدات الماكرين من دعاة تجفيف منابع الإرهاب.