يحلو لكثير من الكتاب من أصحاب الاتجاه التغريبي المقابَلة بين ما يسمونه دولة مدنية ودولة ثيوقراطية؛ أي الحكم بمقتضى التفويض الإلهي للحاكمين مما يضفي عليهم صفة العصمة والقداسة، ويذكرون ما في الدولة الثيوقراطية -أي الدولة الدينية- من المثالب والعيوب والآفات، ويُسقطون ذلك على الدولة الإسلامية!!
وهذا ليس من المنهج العلمي الذي يتبجح به هؤلاء؛ فإن هذا اللفظ (ثيوقراطية) ليس من الألفاظ العربية، وهو لم يأت في أي كتاب من كتب المسلمين؛ فكيف يحاسبوننا عليه؟
وهل هذا إلا كمثل من يتهم غيره بتهمة من عند نفسه ثم يحاسبه عليها وهو لا يعلم بها؟
فإذا كانت الدولة الثيوقراطية ليست من مصطلحاتنا أو مفرداتنا، لم يَجُز لأحد أن يحاكمنا إليها، ومن أراد فليلجأ إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا حتى يكون النقاش علمياً.
إن الدولة الثيوقراطية التي يتحدثون عنها بالصفات التي يذكرونها لا نعلم عن وجودها إلا ما كان في بلاد الغرب النصراني الذين نشأ فيهم هذا المصطلح؛ حيث تسلط علماء اللاهوت على كل شيء حتى على قلوب الناس بزعم تمثيلهم للإرادة الإلهية؛ فهذه خبرة نصرانية لا علاقة لها بالإسلام من قريب أو بعيد؛ فما الذي يدعو هؤلاء إلى محاكمتنا إلى لفظ ليس من عندنا ولا يحاكموننا إلى ألفاظنا ومصطلحاتنا الثابتة في كتب أعلام هذه الأمة؟
وهل هذا إلا دليل على أن هؤلاء يحاكمون تاريخنا وهم في الوقت نفسه ينظرون إلى تاريخ الغرب النصراني نظرة إكبار وإعجاب!!
لقد نعى القرآن الكريم على أهل الكتاب، ما يحاول هؤلاء بافتراء واضح أن يلصقوه بأمة المسلمين، فقال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ} [التوبة: 31] وقد بين أهل التفسير أن تلك الربوبية كانت في استقلال الأحبار والرهبان بالتشريع حتى إنهم ليُحِلُّون ما حرم الله تعالى ويحرِّمـون ما أحـل الـله تعالى؛ وهـذا لـم يـكـن بحـمد الـلــه سبحانه في أمة المسلمين. (انظر: الدولة المدنية صورة للصراع بين النظرية الغربية والمُحْكَمات الإسلامية؛ محمد بن شاكر الشريف).
وإذا حاولنَا استخراجَ أهمِّ معالِـمِ مفهومِ الدولةِ الدينيَّةِ «الثيوقراطية»، ونظريَّاتها المؤسَّسة، وموقف الإسلام منها؛ سيظهر لنا بوضوح شديد أن الإسلام يرفضُ تماما أن يكون لأحد غير نصوص الوحيِ حاكمِيَّة علَى الخلق، فالنبي صلى الله عليه وسلم إِنما يتكلم بوحي يوحى إليه من الله، وبموته صلى الله عليه وسلم انقطع الوحي، ولـم تبق إلا اجتهادات العلماء في فهم هذا الوحي، فيختلفون ويتفقون، وليست كلمة واحد منهم بدين يجب اتباعه، وليست لواحد منهم عصمة ولا شبهها، ولا يملك واحد منهم مهما عَظُم قدره أن يولي بنفسه حاكما، أو يخلعه، بل ذلك لمجموع أهل الحلِّ والعقد وفق أصول شرعيَّة منصوصة.
ولـم يُترَك الأمرُ لأهواء أهل الحل والعقد، وذهب فريق من فقهاء المسلمين إلى أن رأيَ أهل الحل والعقد ليس ملزما لعموم الأمَّة، ولا بد للأمة من إقرار ما ينتهي إليه أهل الحلِّ والعقد، وأن يرضوا عنه، ولا يتم لـمن اختاره أهل الحل والعقد الحكم حتى ترضى الأمة وتبايع، وهذا الحاكم إنما بُويِع باختيار الشعب، وهو مأمور أن يحكم بينهم بما أنزل الله، ولا طاعةَ له إن أمرهم بمعصية، ويجوز عزله وخلعه عن منصب الحكم بشروط معروفة، وليست له طبيعة إلهية، ولا ينصب بحق إلهي مباشرا كان، أو غير مباشر، وليس نائبا عن الله -عز وجل-، وإنما هو وكيل وكلته الأمة لضبط شؤونها.
بهذا العرضِ المختصر لأسس نظام الحكم في الإسلام تظهر بوضوح خطوط التقاطع والرفض الإسلامي للدولة الدينية القائمة على النظريات السابقة، وبمراجعة تفاصيل هذا العرض في مصادر الفقه السياسي يتضح التباين الشديد بين هذا البغي والظلم الكنسي، وبين دينِ العدل والمرحمة . ( انظر: الدولة المدنية مفاهم وأحكام؛ لأبي فهر أحمد سالم).