علم التوحيد أشرف العلوم وأجلّها قدراً، وأوجبها طلباً، ومعرفته أجل المعارف كما قال الحافظ ابن عبد البر رحمه الله:
فإذا طلبت من العلوم أجلها *** فأجلها عند التقي المؤمن
علم الديانة وهو أرفعها لدى *** كل امرئ متيقظ متدين
وقال الشيخ حافظ حكمي رحمه الله:
أول واجب على العبيد *** معرفة الرحمن بالتوحيد
وبهذا يُعلم أنه سبحانه أنزل الكتب وأرسل الرسل لأجل التوحيد والإيمان وصدق من قال من أهل العلم والعرفان: “اعلم رحمك الله أن الله سبحانه إنما أرسل الرسل وأنزل الكتب لأجل التوحيد”.
وقال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن رحمه الله: “فإن التوحيد هو دين الله وملة خليله إبراهيم ودين جميع الأنبياء والمرسلين”.
وقال ابن القيم رحمه الله: “والتوحيد مفتاح دعوة الرسل”.
ويتبين بهذا أن دين الأنبياء واحد وإنما اختلفوا في الشرائع كما قال ابن القيم في النونية:
فالرسل متفقون قطعاً في أصو***ل الدين دون شرائع الايمان
كل له شرع ومنهاج وذا*** في الأمر لا التوحيد فافهم ذان
فالدين في التوحيد واحد*** لم يختلف منهم عليه اثنان.
فالتوحيد هو أعظم الأوامر كما قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله: “فمن أعظم ما أمر الله به التوحيد الذي هو إفراد الله بالعبادة وهو مشتمل على صلاح القلوب وسعتها ونورها وانشراحها وزوال أدرانها وفيه مصالح البدن والدنيا والآخرة”.
والتوحيد هو طريق الفلاح المُوصل إلى بلاد الأفراح كما قال ابن القيم رحمه الله: “ومفتاح الجنة التوحيد”.
وبهذا يُعلم أن الإنسان بحاجة إلى التوحيد كحاجة الجسد إلى الماء بل أعظم من ذلك قال ابن القيم رحمه الله: “اعلم أن حاجة العبد إلى أن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً أعظم من حاجة الجسد إلى روحه؛ والعين إلى نورها؛ بل ليس لهذه الحاجة نظير تقاس به؛ فإن حقيقة العبد روحه وقلبه ولا صلاح لها إلا بإلهها الذي لا إله إلا هو”.
ومما يدل على أهمية التوحيد أن القرآن كله متضمن للتوحيد قال ابن القيم رحمه الله: “إن كل آية في القرآن فهي متضمنة للتوحيد شاهدة به داعية إليه”.
وقال أيضاً: “فالقرآن كله في التوحيد وجزائه وفي شأن الشرك وأهله وجزائه”.
لذا حري بالمسلم أن يهتم بأمر التوحيد فمن أجله حقّت الحاقّة، ووقعت الواقعة، وصار النّاس فريقين: فريق في الجنّة، وفريق في السّعير.
فضائل التوحيد
وليعلم أن للتوحيد فضائل عظيمة وكثيرة منها ما يأتي:
1- سبب لدخول الجنة والنجاة من النار، و”التوحيد أول ما يدخل به في الإسلام وآخر ما يخرج به من الدنيا”.
2- انشراح صدر صاحبه؛ “فأعظم أسباب شرح الصدر التوحيد وعلى حسب كماله وقوته وزيادته يكون انشراح صدر صاحبه”.
3- أنه سبب لقبول جميع الأعمال.
4- أنه سبب لثمرة الأعمال الصالحة، كما قال ابن القيم في كلامه على كلمة التوحيد: “ولا تزال هذه الشجرة تثمر الأعمال الصالحة كل وقت بحسب ثباتها في القلب ومحبة القلب لها وإخلاصه فيها ومعرفته بحقيقتها وقيامه بحقوقها ومراعاتها حق رعايتها؛ فمن رسخت هذه الكلمة في قلبه بحقيقتها التي هي حقيقتها، واتصف قلبه بها، وانصبغ بها بصبغة الله التي لا أحسن صبغة منها، فعرف حقيقة الإلهية التي يثبتها قلبه لله، ويشهد بها لسانه وتصدقها جوارحه ونفى تلك الحقيقة ولوازمها عن كل ما سوى الله، وواطأ قلبه لسانه في هذا النفي والإثبات، وانقادت جوارحه لمن شهد له بالوحدانية طائعة سالكة سبل ربه غير ناكبة عنها ولا باغية سواها بدلا، كما لا يبتغي القلب سوى معبوده الحق بدلا، فلا ريب أن هذه الكلمة من هذا القلب على هذا اللسان لا تزال تؤتي ثمرتها من العمل الصالح الصاعد إلى الله كل وقت، فهذه الكلمة الطيبة هي التي رفعت هذا العمل الصالح إلى الرب تعالى وهذه الكلمة الطيبة تثمر كلاماً كثيراً طيباً يقارنه عمل صالح”.
5- تفريج الكرب، “فما دفعت شدائد الدنيا بمثل التوحيد ولذلك كان دعاء الكرب بالتوحيد؛ ودعوة ذي النون التي ما دعا بها مكروب إلا فرج الله كربه بالتوحيد فلا يلقى في الكرب العظام إلا الشرك ولا ينجي منها إلا التوحيد فهو مفزع الخليقة وملجؤها وحصنها وغياثها”.
6- أن كلمة التوحيد سبب لثقل الموازين ورجحانها.
وللأسف الشديد فقد شابت عقائد المسلمين عند كثير من الناس جملة من الشوائب التي ذهبت ببهاء العقيدة الصحيحة وبصفاء التوحيد، خاصة فيما يتعلق بتوحيد الألوهية والعبادة، حيث نرى الاستغاثة بغير الله، والنذر لسواه، ودعاء غيره فيما لا يقدر عليه إلا هو.. إلى غير ذلك مما يناقض كلمة الإخلاص.
يقول المقريزي رحمه الله: “اجتمعت الخلائق كلها على توحيد الربوبية واختلفوا في توحيد الألوهية فكان توحيد الألوهية، مفرق طرق بين المؤمنين والمشركين” تجريد التوحيد.
ومن تم كانت معرفة الله والعلم به والتوجه إليه هي نقطة البداية الصحيحة في المسيرة الإنسانية، والضلال عن الله والجهل به هو نقطة الضياع في الحياة البشرية، فالعقيدة الصحيحة -إذن- قاعدة يبنى عليها بناء هائل، وأصل لا يغني عنه غيره، فإذا قام البناء على غير قاعدة كان بناء ضعيفا مختلا، وفي كثير من الأحيان يقتل من بناه، ويدمر من سكنه.
فلا بد إذن من حفظ التوحيد وعقائد المسلمين من كل ما يذهب به أو يضعفه، فإن أهل الإسلام هم رأس المال، ورأس المال مقدم على طلب الربح.
يقول الحافظ ابن هبيرة الوزير رحمه الله: “ومعلوم أن المسلمين هم رأس كل مسلم، فتصفية الاعتقاد فيهم من شوائب الوثنية هو من باب حفظ المال، وأما دعوة الكافر إلى الإسلام فهي من باب طلب الربح، ولا شك أن حفظ رأس المال مقدم على طلب الربح والله أعلم” منتقى الفوائد للحاشري 109، وانظر الفتح 12/301.