مظاهر الجاهليات القديمة في جاهلية العلمانية الحديثة أبو عبد الرحمن ذوالفقار بلعويدي

لقد استخلصنا من المقال السابق “جاهلية العلمانية” أن العلمانية في مدلولها الشامل هي رفض شريعة الله، كما علمنا أنها ليست بدعاً من المناهج ولا فكرا غريباً ولا أنها أسلوب جديد للحياة؛ إنما هي انحراف مسبوق لا يختلف عن انحراف الأمم السالفة في رفض دعوة أنبيائهم. إنها مناقضة للإسلام وبعيدة عنه.
فهي امتداد للجاهلية القديمة، بل هي الجاهلية بعينها في تمردها وطغيانها وجبروتها، في عتوها وغرورها وعصيانها وعدائها، في فحشها وفسقها وفسادها ووقاحتها، في تلونها وتخبطها واضطرابها، لكنها في صورة متطورة. بل إنما هي مجموع الجاهليات السابقة في الأمم الغابرة عبر تاريخ البشرية تلاقحت وتناسقت وتشكلت في قالب جديد تحت اسم العلمانية.

جاهلية العلمانية في الاقتصاد
 لقد أخبرنا الله تعالى للاعتبار والاتعاظ في ما حكاه في أكثر من سورة من خبر الأمم الغابرة عن أهل مدين مع نبيهم عليه السلام لما أمرهم بقوله في ما أخبر الله به عنه: {وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَـهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ، وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ، بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ}(1) لقد كان أهل مدين أهل شر وبخس وفساد وظلم ورهق وتطفيف وسوء معاملة في البيع والشراء. كانوا ينقصون المكيال والميزان، ويبخسون الناس أشياءهم، وكانوا يفرضون بحكم موقعهم الجغرافي على القوافل المارة من  بلادهم بعض الإلزامات الوضعية الجائرة.
لكن الذي يهمنا في قصة شعيب عليه السلام مع قومه هو نوع ردهم وإنكارهم عليه في ما أخبر به الله عنهم من قولهم في قوله سبحانه: { قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}(2). ينكرون عليه تدخل دينه في معاملاتهم المالية، لم تتسع مداركهم إلى تصور حقيقة العلاقة بين الدعوة إلى توحيد الله والدعوة إلى إصلاح نظامهم الاقتصادي، إلى تصور أن الدين يتناول جانب المعاملات المادية.
وهذا هو ما تعانيه العلمانية في جاهليتها الحديثة تقول ما قاله أهل مدين في جاهليتهم قبل الإسلام وما ستقوله الجاهليات القادمة تحت غير اسم العلمانية وهو قولها أن الإسلام عقيدة ولا علاقة له بالنظام العام الواقعي للحياة؛ لا علاقة له بالمعاملات المالية. فهو عين قولهم في هذا الزمان ما للدين والمعاملات المادية؟ ما للدين والربا؟ ما للدين والاقتصاد؟ ما للاعتقاد والاقتصاد؟ ما للدين وبيع الخمور؟ ما للدين والسياحة؟…
فأي فرق بين سؤال العلمانيين وبين سؤال أهل مدين وهذه اعتراضاتُهم مثل اعتراضاتِهم: { أَصَلواتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء}؟
 
جاهلية العلمانية في الأخلاق
أما عن الأخلاق فالعلمانية الحديثة لا تحرم الفواحش الأخلاقية، بل لا تراها أصلا فواحش. عملا بقاعدتها أن الدين علاقة بين العبد والرب، لا شأن له بأخلاق الناس، إلى درجة أنها لا تعتبر العلاقة الجنسية غير الشرعية ولا العلاقة الجنسية الشاذة رذيلة أخلاقية! وهذا ما يعبر عنه إعلاميوها ومثقفوها ومفكروها بقولهم أن الاتصالات الجنسية الحرة هي عملية بيولوجية وليست رذائل أخلاقية.
ميزان العلمانية للأخلاق هو أهواء الناس أو الشعوب تحت أغطية متعددة وأسماء كثيرة؛ نخبة، هيئة، مجلس، جمعية، منظمة.. تمنع ما يشاؤون وتبيح ما يشاؤون دون اعتبار شرع أو دين. إنها الجاهلية في دعوتها إلى الانحراف الجنسي والشذوذ وكل أنواع الإباحية؛ خمور وزنا ولواط وبغاء وقمار وارتكاب الفواحش، كل هذا يعد في دين العلمانية جزء من الحرية الشخصية الفردية..
نعم إنها الحرية لكن بمدلولها العلماني الجاهلي، معناها التحرر من المبادئ والأخلاق؛ هي حرية فساد أخلاقي، وحرية إثارة غرائز جنسية عبر الجسد العاري والرواية الفاجرة والفلم الفاحش والأغنية العفنة والكلمة الساقطة، وحرية العلاقات غير الشرعية. تأمل قول خديجة الرياضي الحداثية! وهي تعبر عن رأيها في مسألة اللواط أو كما يعبر عنها العلمانيون “العلاقة الجنسية المثلية” وذلك في لحظة انتكاسة أخلاقية وانطماس بصيرة وقذارة فكرية يترفع عنها ذكور البهائم بفطرتهم البهيمية، وذلك بقولها: (طالبنا بإلغاء الفصل 489 من القانون الجنائي الذي يعاقب بالسجن على الممارسة الجنسية المثلية باعتبار أنه إذا كانت بين راشدين تدخل في إطار الاختيارات الشخصية والحريات الفردية)(3).
وهذا عصيد يقول: (هؤلاء الذين يتهجمون من القوى المحافظة على الفنون وعلى الأفلام وعلى الروايات وعلى الشعر، يتهجمون على الخمور ويعتبرون أنه ينبغي أن تصادر إرضاء لهم، يتهجمون على المثليين كما لو أنهم ليسوا بشرا أو أنهم ليسوا مواطنين كاملي الحقوق والمواطنة، ويتهجمون…)(4).
تشدق فيه من الجهالة بالقيم الأصيلة التي أقام الله عليها الحياة، بقدر ما فيه من العمى، بقدر ما فيه من سوء الأدب والتطاول على الله، بقدر ما فيه من الضلال والتمرد على أحكام الله تعالى!
ممارسة اللواط تدخل ضمن الحريات الفردية، والممارسون له كاملي الحقوق والمواطنة؟!!
أهذه هي الحرية ؟!!
أم هكذا تكون المواطنة؟!!
صدق الله العظيم القائل: {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقّ أَهْوَاءهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ}(5).
دعوة مستنكرة ظاهر فسادها، وقول مخز شنيع ذكره، لا يستحق قائله أدنى احترام، حيث تشمئز نفس أهل العفة والطهر الروحي والسمو الفكري من مجرد تصوره أو التفكر فيه. إنها دعوة أهل الفحشاء ممن شنع عليهم لوط عليه السلام في ما حكاه الله عنه في مثل قوله: {وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ، إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}(6).
ففيم الترفع إذن بدعوى التحضر والتطور والتقدم وهذه علمانيتهم هي من  قبيل جاهلية مَن قبلهم من قوم لوط؟ وفيم التبجح…؟
إلا أن الغريب العجيب أنهم في غفلة من غيهم لا يشعرون معها أنهم دون مستوى الإنسانية، بل يحسبون بهيميتهم هذه أكثر تطورا وأرقى تحضرا..!!
تأمل قول عصيد هذا: “وليس مسموحا لأي كان أن يعيد بلدا ما إلى الوراء لكي يظل دون مستوى الإنسانية، أي دون مستوى ما بلغته الحضارة البشرية، هذا ظلم أن تنعم شعوب ما بهذه الحقوق وبهذه الحريات كآخر ما بلغته الحضارة وأن نجعل شعوبا أخرى تعيش الماضي بدعوى الخصوصية..”(7).
أهذا صوت العقل أم هو الحمق إلى أبعد الحدود حين يدعو المرء إلى السماح بممارسة اللواط وبيع الخمور والدعارة والفحش والانفلات ويتصور أن هذا هو أعلى درجة بلغتها البشرية في تطورها وآخر ما بلغته الحضارة في التحرر؟!
نعم ظلم أن تنعم شعوب بالحريات وتحرم شعوبنا!!!
لكن مثل من؟ مثل شعب أمريكا، وشعب بريطانيا، وروسيا، وفرنسا، والسويد مثلا حيث الرخاء المادي والتقدم الصناعي الذي أعشى أبصارهم وأغشى قلوبهم عما تعانيه هذه الشعوب من ضنك الحياة ودمار على مستوى الإنسانية، وهذه الشواهد ساطعة تدل على أنها في طريقها إلى الانهيار التام.
إنها خيارات عدوى الجاهلية الناشئة عن انحراف في العقيدة؛ وجهل بحقيقة الإسلام؛ وجهل بطبيعة الإنسان؛ وعدم تصور ارتباط العقائد بدنيا الناس.
إنها الجاهلية في علمانيتها الحديثة؛ جاهلية الانهزام أمام الشهوات وعبادة الأهواء وتحطيم الأخلاق وتمجيد الفاحشة. يتبع..

1- سورة هود الآية 84-85-86
2- سورة هود الآية 87
3- حوارا الحريات الفردية بالمغرب، أنظره على youtube
4- نفس المصدر
5- سورة المؤمنون الآية 71
6- سورة الأعراف الآية 80- 81
7- حوارا الحريات الفردية بالمغرب، أنظره على youtube

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *