جولة مع عصيد في علمانيته -1- ذوالفقار بلعويدي

كلمة لا بد منها
لا أريد الخوض في بيان مدلول عبارة “أسلم تسلم”، بإضافة أو إشارة، بعد أن انبرى ثلة من الدعاة والخطباء وأهل الغيرة إثر تصريحات عصيد ووصفه رسائل النبي صلى الله عليه وسلم لملوك زمانه بأنها رسائل إرهابية. فبينوا اعوجاج فهمه وقلة اطلاعه، كما كشفوا أنها كانت عبارة دعوة مفادها أسلم تنجو من عقاب الله، لا عبارة تهديد تفيد أن الإسلام انتشر بالسيف والعنف كما فهم عصيد وصرح بقوله “إما أن تسلم وإما أنك ستموت”.
ثم ها قد هدأت فورة غضبهم، وخفت حدة انتصارهم، وخفتت أصواتهم بعدما ارتفعت، وسكنت أنفسهم بعدما هاجت وماجت، وانطفأت حماستهم بسرعة كما اشتعلت، وقامت الدنيا ثم قعدت. حتى بدت انتفاضتهم في صورة لا تعدو أنها كانت مجرد مشاعر حماسية. مما ينم عن ضعفهم وقلة حيلتهم وهوانهم على العلمانيين في بلد دينه الرسمي الإسلام.
ومما حز في القلب ما كان من تنكر غير مفهوم وإعراض غير معلوم من المجلس العلمي الأعلى بعدم الكشف منه عن موقف رسمي مما جرى، كأن لم يسمعه كأن في أذنيه وقرا، حيث لم يقم للأمر وزناً، بشكل يوحي استخفاف أعضائه بالحدث. وما تضمنه تجاهلهم هذا من تغييب المكانة المقدسة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، في موطن التستر فيه مفسدة تنافي مصلحة صيانة عقيدة المسلمين، ومقصود قول رب العالمين: ﴿وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ) الأنعام:55.

تقليد العلمانيين الغرب دون تأمل أو تدبر
وإن الناظر في حال العلمانيين كلهم جميعاً، وهم قد تثقفوا بالثقافة الغربية دون محاولة منهم للتحرر من تلك السخافة الفكرية، المتمثلة في تصور الرجل الغربي العداوة بين كل ما هو ديني وما هو علمي. يجدهم مع الأسف الشديد يبدؤون من متاهة هذا التصور ينتقدون دون مبرر كل ما هو إسلامي بمقياس غربي.
متغافلين أن النصرانية هي مجموعة عقائد وعبادات وشعائر، ولم تتضمن شريعة تحكم المجتمع وتنظم أفراده. وهذا خلاف الإسلام.
ولو أنصفوا لأدركوا أن الإسلام كان سباقا إلى التنبيه على فساد النصرانية، وما طرأ عليها من تحريف. ولو أن الغرب أخذ بتعاليم الإسلام فيما يخص دينهم لما بقيت أروبا متخبطة في تيه أوهام الكنيسة قرونا طويلة إلى حدود الثورة العلمية التي كشفت عن صدق ما أخبر به الإسلام عن تحريف كتابهم المقدس.
أما الإسلام فهو ليس عقيدة مجردة منفصلة عن واقع حياة المسلمين، وقانون مجتمعه الذي تقوم عليه أوضاعه ينبغي أن يكون هو أحكام الإسلام وتشريعاته؛ وباختصار فالمجتمع الإسلامي في الواقع هو مجتمع يحكمه الإسلام، ومن هذا هو يقتبس لنفسه من واقع حاله اسم “المجتمع الإسلامي”.
هذا ما ينبغي أن يتبينه المسلم حتى لا ينخدع بخدعة من يقلدون الغرب تقليد العبيد، وينظرون إلى الإسلام بمنظار الغرب إلى النصرانية. وهذا خطأ جسيم لم يقع إلا ممن يجهل الإسلام ولم يدرس شريعته. وإذا صح أن الإسلام يختلف عن النصرانية بطل القياس.

أباطيل عصيد وعامة العلمانيين حول انتشار الإسلام
إن المتأمل فيما يثيره هؤلاء يجد هذه آفتهم متجسدة في طريقة استدلالاتهم ونوع استنتاجاتهم وذلك بشكل بارز مكشوف لا يملكون إخفاءه أو التملص منه.
ولعل القارئ يلمس في تصريحات عصيد وأمثاله من العلمانيين أن المسألة ليست مسألة جهل فحسب، أكثر مما هي مسألة انحراف في معايير التصور، واختلال في موازين التفكير.
وإلا فعلى أي أساس صدّق عصيد أن الإسلام انتشر بالسيف والعنف؟!
وعلى أي أساس يريد منا أن نصدّقه نحن؟!
أعلى أساس الدراسة الحرة؟ لا أظن هذا.
وإلا فمن أين استقى عصيد معلومة أن الإسلام قد انتشر بالسيف، وأن الجهاد كان لإكراه الآخرين على اعتناق الإسلام؛ وانتهاك حرمة حرية الاعتقاد!؟
مع العلم بداهة أنه لا نفع للإسلام في إكراه من لا يريد الإسلام على اعتناق الإسلام، بل فيه ضرر شديد، ثم لا حاجة للإسلام إلى مثل هؤلاء، بل متى كان الإسلام مفتقرا إليهم؟
فإن كان قول عصيد هذا يكشف عن شيء، فهو يكشف عن مدى سخافة المعلومة، وحجم تفاهتها ومقدار سطحيتها وخلوها من كل منطق وتحقيق وتمحيص وتفكير. فضلا عن سفاهة عقل مروجها. فإن سرَّ وقعة عصيد هذه وآفة انحرافه، أنه بمجرد سقوط عينه على خبر الرسالة، تلقفه دون محاولة فهمه بعيدا عن كل ما علق بذهنه من رواسب المستشرقين وثقافة الغربيين، فانتقد الخبر بمقياس غربي، دون أن يسأل نفسه عن مدى صدق هذه الدعوى. ومثل هذا لم يكن ليقع له إلا وقد استولت على عقله فلسفة الغرب فغلّت فكره عن التأمل والتدبر.
فهل هكذا يكون التحرر؟! ويا ليته يدرك أنه مسلوب العقل.
إننا لسنا ضد مناقشة قضية وجود الإسلام، شريطة أن تكون مناقشة جادة موضوعية كاملة وافية؛ لكن نحن ضد أن يناقشنا عصيد بعقل غيره وهو يدعي التحرر. نريد منه أن ينتقد الإسلام بمقتضى نصوصه ومدلول أحكامه، لأن كل فهم لا يوافق المدلول الحقيقي الذي جاء به الإسلام فهو ليس إسلاما، ولا ينبغي أن يحسب على الإسلام. ومن ثم يكون المنتقد للإسلام بفهمه القاصر، هو غير منتقد في الحقيقة للإسلام، وإنما هو منتقد لإسلام هو يتوهمه.
وإلا فبالله عليكم، كيف تسنى لعصيد دعوى أن الإسلام قد انتشر بالسيف، في الوقت الذي نجد الإسلام يقرر قاعدة ﴿لا إكراه في الدين﴾.
إن مشكلة عصيد ناشئة عن حمله مدلول الدين في الإسلام، على مدلول الدين عند الأوربيين؛ الذي هو عندهم بمعنى النِّحلة والتي هي في اصطلاحهم الشائع مجرد عقيدة في الضمير.
ومن ثم كان عند عصيد وكل العلمانيين قبله وبعده، الأمر بالجهاد في الإسلام هو أمر بإكراه الفرد على تغيير معتقده الذي هو الدين بالمدلول الغربي!!!
وهذا خلط بيِّن لم يقع -كما سبقت الإشارة إليه- إلا ممن لا يعرف أو لا يقبل أن يكون الإسلام عقيدة وشريعة.
وكأني بمن يتساءل بقوله: إذا كان الإسلام يقوم على قاعدة: ﴿لا إكراه في الدين﴾ فلماذا إذن يأمر بالجهاد في سبيل الله؟
نعم ﴿الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله﴾؛ في سبيل الله وحده، لا في سبيل مجد، ولا في سبيل استعلاء، ولا في سبيل استغلال، ولا في سبيل استثمار، ولا لتصفية حسابات، لا لقومية، ولا لعصبية، إنما هو في سبيل الله. بهذا التحديد، ولهذا الهدف، إعلاء لكلمة الله، وتمكينا لتشريع الله، وإقامة لعدل الله ﴿وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله﴾.
ثم ما المانع من أن يكون الإسلام هو الزاحف ابتداء؟
وهو لا يتحرك إلا من أجل تحقيق هدف ابتعاثه الذي هو إخراج العباد من عبادة العباد؟
وأو ليس له الحق في أن تكون له من القوة تمكنه من نشر شريعة الله لعباده، وتحرير الإنسان من شرعة الإنسان، وإلغاء عبودية البشر للبشر. فلا تكون ألوهية لعبيد، ولا دينونة لغير الله، ولا سيادة لغير تشريعه، فكل الناس عباد الله إما شرعا أو كونا، ولا يجوز لبعض عباده أن يحكموا عباده في أرضه بغير شرعه.
فالإسلام حَسْبه أنه لما أمر بالجهاد لم يأمر به لإكراه الناس على اعتناق عقيدته، وإنما أمر به لأغراض، منها: أن يقيم في الأرض نظامه الذي لا تشريع فيه للناس سواء كانوا حكاما أو شعوبا أو أحزابا، ولينعم الناس كلهم أجمعون في ظل عدل تشريعات رب الناس، ملك الناس، إله الناس، وليس رب العرب وحدهم، ولا رب المسلمين دون غيرهم، وإنما هو رب العالمين وإن لم يعتنقوا عقيدته.
هذا هو قوام الأمر بالجهاد في شريعة الإسلام.
يتبع…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *