الاستغراب في فكر الدكتور عبد الله العروي

الاستغراب الفكري:  في مجال التاريخ: تبني التاريخانية
يقول الدكتور عبد الله العروي: “نستطيع أن نقرر أن التاريخانية هي فلسفة كل مؤرخ يعتقد أن التاريخ وحده العامل المؤثر في أحوال البشر، بمعنى أنه وحده سبب وغاية الحوادث”[1].
إن كاتبنا عندما يقرر أن التاريخ وحده العامل المؤثر في أحوال البشر،  يكون قد جعل للتاريخ منطقا خاصا وكيانا مستقلا عن البشر وإرادتهم. معنى هذا أن البطولة الإنسانية منعدمة وأن الفرد لا قيمة ولا فاعلية ولا دخل له في صنع الحوادث وتوجيهها.
لاشك أن الدكتور عبد الله العروي قد طغت على تفكيره النزعة الفلسفية التي حملته على التشيع للتاريخانية، بما تقوم عليه من أصول فلسفية. وبالرغم من كونه اجتهد في التنكر لميولاته الفلسفية، وحاول الابتعاد عن الفلسفة، إلا أنه قد وقع في شركها، وهذا ما يؤكده عبد السلام بنعبد العالي في قوله: «إلا أننا نلفي عندنا مفكرين أقرب إلى الفلسفة لا يكتبون فيما عهدنا أن نطلق عليه مؤلفات فلسفية مثل الخطيبي الذي يصرح بأنه يكتب على هامش الفلسفة، والعروي الذي يوظف مفاهيم الفلسفة ويتغذى من منابعها، ويرفض صراحة أن يلقب فيلسوفا، فيميز بين اجتماعيات الثقافة وبين ما يطلق عليه الإغراق في التأمل النظري»[2].
وغني عن البيان أن الفلسفة -بعد الفيلسوف الألماني هيجل- قد أخلت المكان للتاريخ، كما أن كارل ماركس قال: “لاعلم إلا التاريخ”. ومن هنا يتبين كيف أن العروي -تحت التأثير الماركسي- اهتدى بالتاريخ وبالنزعة التاريخانية انطلاقا من مفهوم حتمية التاريخ ومفهوم تلك النزعة؛ «يرى العروي أن العالم العربي لا يستطيع أن يقدم بديلا للحداثة التي نشأت في الغرب.. وغدت حتمية عالمية»[3].
ويتوجه الدكتور العروي إلى المثقف العربي قائلا: «إن الترياق الوحيد حتى الآن الذي عثر عليه، الشافي من الشيطان الداخلي لكل مثقف عربي هو التاريخانية. فإنقاض قيمتها هو في نظرنا شكل من أشكال العدوان الثقافي»[4].
إن الدكتور عبد الله العروي عندما يعتبر “العالم العربي” عاجزا عن تقديم بديل للحداثة الغربية، وأن هذه الحداثة أصبحت “حتمية عالمية”، يبرهن على وقوعه هو الآخر في الفهم الآلي لمفهوم الحتمية.
إن الحتمية التي تعني أن نفس الشروط تؤدي إلى نفس النتائج، يسهل ملاحظتها والتأكد من فاعليتها عندما نكون إزاء ظواهر طبيعية أو أشياء مادية، أما عندما يتعلق الأمر بالظواهر والحالات النفسية والاجتماعية، فإن تطبيق مفهوم الحتمية كثيرا ما يتعذر، ذلك لأن وقوع سبب معين لايؤدي دائما إلى حدوث نفس النتيجة في مجال النفس والمجتمع.
إن الاعتقاد بصحة مبدأ الحتمية في المجال النفسي والاجتماعي والتاريخي، تنبني عليه قضايا تتعارض من جهة مع الشخصية السوية والمريدة، ومن جهة أخرى مع قواعد العقيدة والإيمان، فالإنسان الذي يعجز عن مواجهة مشاكل نفسية واجتماعية  معينة -مع وجود إمكانية التغلب عليها- ويستسلم للأنا، هو إنسان يؤمن بطريقة أو بأخرى بمبادئ الحتمية في المجال النفسي والاجتماعي، ويوهم نفسه بأن الأزمة النفسية والاجتماعية التي حلت به، لم يكن من الممكن تجنبها، وبالتالي يصبح وكأنه آلة عديمة الحرية خاضعة لقوى نفسية خفية.
إن الاعتقاد بأن العوامل النفسية والاجتماعية والتاريخية تتحكم في شخصية الإنسان وذاته وأن الإنسان مقسور في إطار من الجبر الذي تفرضه هذه العوامل على تصرفاته، يتعارض ويتنافى مع مفهوم الإيمان بالله وإرادة الفرد والالتزام الأخلاقي كما يتنافى مع الفطرة البشرية.
وعلى أساس من مبدأ التقدم الحتمي، ظهرت مدارس متعددة تحاول كل منها أن تفسر حركة التاريخ بعوامل مادية وعلل اجتماعية ونفسية خالصة، فظهرت المدارس الجغرافية بزعامة (براون) و(ميشليه)، تفسر حركة التاريخ بظواهر جغرافية، وظهرت المدرسة النفسية بزعامة (تارد) و(غوستاف لوبون) ثم (فرويد)، تفسر التاريخ بعلل نفسية، وظهرت المدرسة الأثنولوجية بزعامة (تين) و(ميشليه) تفسر التاريخ عن طريق الجنس أو العرق، ثم ظهرت المدرسة المادية التاريخية بزعامة (كارل ماركس) تفسر التاريخ بالعلل الإقتصادية .
ولم يعن اكتساح المفهوم الإلحادي للتطور القائم على مبدأ التقدم الحتمي طبقا لقانون ثابت للفكر الغربي، ارتداد جميع المسيحيين عن مسيحيتهم، والذي بقي فيها من مبادئ الإيمان الصحيح، الإيمان بالخالق وبأن العالم مخلوق، لذا واجهت فكرة التطور بهذا المعنى الإلحادي الذي ذكرناه كثيرا من الانتقادات العنيفة التي وجهها إليها عدد من العلماء في الغرب.
فقد رفض هؤلاء أن يتصوروا المجتمع البشري يسير في ذلك الخط الذي رسمه أصحاب مدرسة التقدم الحتمي، ورأوا على العكس من ذلك أن الإنسان خلق في الأصل على درجة عالية نسبيا من الرقي الثقافي، ولكن هذه الثقافة الأولى الراقية تعرضت لبعض عوامل مضادة، ولبعض الظروف غير المناسبة التي دفعت بها إلى هوة التدهور والتأخر والانحلال.. فتاريخ الثقافة بدأ -في رأي هؤلاء المعارضين- بظهور جنس بشري متحضر على سطح الأرض، ثم لم تلبث هذه الثقافة الأولى أن اتجهت وجهتين مختلفتين؛ إما إلى نكوص وتدهور وانحطاط ترتب عليها ظهور المجتمعات المتوحشة، وإما إلى تقدم وارتقاء ورفعة أدت إلى ظهور الشعوب المتحضرة الراقية. وقد ظهر هذا الاتجاه المعارض بشكل جلي عند بعض رجـال الدين واللاهوت على الخصوص في القرنيين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، ومن أكبر مشايعي هذه النظرة الأسقف (هويتلي) أسقف (كانتربري) في ذلك الحين، والذي كتب كتابا بعنوان “مقال عن أصل الحضارة” كان له دوي كبير في الأوساط الثقافية والعلمية.

——————
1- د. عبد الله العروي، مفهوم التاريخ 2/349.
2- عبد السلام بنعبد العالي :الفكر الفلسفي في المغرب ص:8.
3ـ Driss Mansouri: “Penseurs Maghrébins contemporains“  p.213.
4- د. عبد الله العروي: أزمة المثقفين ص:112.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *